التشكيلية كاريل حمصي لأرابيسك لندن: لوحاتي أسئلة مفتوحة عن الجمال المفتقد!
تابعونا على:

مقابلات

التشكيلية كاريل حمصي لأرابيسك لندن: لوحاتي أسئلة مفتوحة عن الجمال المفتقد!

نشر

في

847 مشاهدة

التشكيلية كاريل حمصي لأرابيسك لندن: لوحاتي أسئلة مفتوحة عن الجمال المفتقد!

حاورها: محسن حسن 

منذ أول معارضها عام 1992 وحتى اليوم، تغيّر الكثير من أسلوبها الفني والتعبيري، ما بين مرحلة الأحمر المتفجر خلال الثمانينات والتسعينات، ومروراً بالأزرق المراوغ، وانتهاءً بالأخضر الساكن والمستقر، لكنّ ما لم يتغير أبداً في مساراتها الفنية ونهجها الأسلوبي والإجرائي، هو اهتمامها العميق بموضوعها قبل لوحاتها؛ إذ لا يمكنها مطلقاً أن تبدأ في الإمساك بريشتها وتحبير ألوانها، قبل أن تستقر قناعاتها وتتأكد من صدق اختيارها، ومن طريقة إيصال رسالتها لجمهورها، تفعل ذلك، سواء أكان المرسوم زهرة أو حيواناً أو مبنى خرسانياً أو حتى فكرة فلسفية أو سياسية مستها بعمق.. بدأت من المدرسة الوحشية التعبيرية، حيث كانت انفعالاتها ومشاعرها ظاهرة جلياً في مقدمة أعمالها، ثم تطورت أعمالها باتجاه الرمزية، عندما أحست برغبتها القوية في التعبير عن رسائل وأفكار حياتية أعمق يجب التعبير عنها عبر التشكيل والرسم، وهو ما يتضح مثلاً في لوحتيها (حرية مصر) و(خلف القناع.. من أنت؟)؛ حيث لامست الأولى وجدان المصريين الوطني، بينما تعاملت الثانية مع قضايا دينية وإنسانية ووجودية بأسلوب بصري رمزي. واليوم تحمل لوحاتها طبقات متعددة؛ لونية وفكرية، في مرحلة فنية متجددة تدعو للتأمل والسؤال. وعلى طول ترحالها الفني لم يكن الفن بالنسبة لها زينة أو ترفاً، وإنما أداة لتشكيل الوعي، وتوثيق اللحظة، وإلزام العالم بدوره ومسؤوليته، وهي رغم تغير التقنيات الفنية والأساليب التشكيلية، يظل دافعها الوحيد، أن تقول شيئاً حقيقياً، وبصدق، عبر أسلوبها الخاص.. زياراتها الفنية إلى العاصمة البريطانية لندن تحمل ذكريات عزيزة على قلبها.. إنها الفنانة التشكيلية المصرية (كاريل حمصي) التي حاورتها (أرابيسك لندن) في هذا اللقاء.

* بداية، إلى أي حد أنت راضية عن الدور والأثر التوعوي والإنساني للفنون التشكيلية في العالم العربي؟ وما الذي ينقصنا قياساً بغيرنا؟ 

ـــــ لست راضية تمامًا عن هذا الدور، ليس لأن الفنانين مقصرون، بل لأن المناخ الثقافي العام لا يزال يبخس الفن حقه كأداة وعي وبناء مجتمعي، رغم أننا كشعوب وحضارات، نمتلك جذورًا عظيمة منذ العصور القديمة والفرعونية وحتى العصور الإسلامية، حيث كان الفن في تلك الحضارات هو نبض الحياة، وأداة تشكيل الوعي الجمعي. لكن اليوم، يُنظر للفن أحيانًا باعتباره ترفاً أو من قبيل الكماليات، وليس باعتباره ضرورة وجودية أو وسيلة لمساءلة الواقع وتخيله بشكل أفضل. وما ينقصنا ليس المواهب ولا الأفكار، بل المساحة، الدعم، والتعليم الفني منذ الصغر، وينقصنا المؤسسية التي تؤمن بدور الفن في بناء الإنسان، لا في التزيين أو الترفيه فقط. و مقارنةً بدولٍ أخرى، نحن نفتقر للسياسات الثقافية المستدامة، وللجمهور المُهيّأ نفسيًا وثقافيًا لتلقي الفن والانخراط فيه أو التفاعل معه. ومع ذلك، أنا مؤمنة بأن كل عمل فني صادق هو بذرة للتغيير، حتى وإن بدأ صغيرًا. وبأن الفن سيبقى دائمًا أداة مقاومة وإضاءة وسط كل هذا العتم.

* من ينظر إلى لوحاتك يستخلص مدى اهتمامك بالتفاصيل ومدى حبك للحياة وعموم الكائنات.. تتفقين أم تختلفين؟ ولماذا؟

ـــ أتفق تمامًا؛ التفاصيل في أعمالي ليست مجرد تقنية أو أسلوب، بل هي تعبير عن شغفي العميق بالحياة بكل ما فيها، من كائنات وأماكن. فأنا أؤمن بأن التفاصيل هي ما يجعل الشيء حيًّا، سواء كان مبنىً قديمًا في وسط البلد، أو ورقة في حديقة، أو نظرة في عين حيوان مهدد بالانقراض. اهتمامي بالمباني والحدائق والحيوانات ينبع من إحساسي أن كل ما هو حي أو له ذاكرة يستحق أن يُحتفى به، أن يُنقذ من التلاشي أو النسيان. ومنطقة وسط البلد مثلاً بالنسبة لي ليست مجرد شارع أو عمارة، بل هي روح مصر الحديثة كما تخيّلها الخديوي إسماعيل، وللأسف، كثير منها مهدد بالانقراض كما هو حال الطبيعة من حولنا؛ لذلك أرسم بكثافة، بطبقات كثيرة من الألوان، لأمنح المشهد أو الكائن عمقًا وبقاءً. كل لوحة عندي هي محاولة لقول “أنا أراكم، أنتم موجودون، أنتم مهمّون”.

التشكيلية كاريل حمصي لأرابيسك لندن: لوحاتي أسئلة مفتوحة عن الجمال المفتقد!

* تتردد رموز الروح والعالم الآخر ممزوجة بخلفية واقعية كثيراً في لوحاتك.. هل هو قلق وجودي أم نزوع فطري نحو طلب الأفضل؟ 

ــــ تردّد رموز الروح والعالم الآخر في أعمالي ليس مجرد اختيار جمالي، بل هو انعكاس لتجربة داخلية معقدة تجمع بين القلق الوجودي والرغبة في الخلاص أو التجاوز. العالم من حولنا مليء بالضغوط، بالخسارات والانقراضات، سواء كانت بيئية أو إنسانية أو حتى معنوية، لذلك أجد نفسي أبحث خلال اللوحة عن طبقة أعمق من الواقع—أقرب إلى الروح، أو الذاكرة، أو الحلم. قد يكون ذلك قلقاً وجودياً أحياناً، وأحياناً أخرى هو نزوع فطري نحو الأفضل، نحو عالم أنقى وأكثر عدلاً، لا تنقرض فيه الكائنات ولا تُمحى فيه الأماكن والحدائق من الذاكرة. لوحاتي ليست إجابات، بل هي أسئلة مفتوحة عن ما نفقده، وما نتمنى استعادته، أو حتى تخليده.

* لماذا جاء توجهك نحو تصميم الجرافيك مبكراً في مشوارك الفني؟ وهل لهذا الأمر علاقة بأية دوافع مجتمعية ومهنية؟ 

ــــ توجّهي نحو تصميم الجرافيك في بداياتي لم يكن هدفًا نهائيًا، بل كان جزءًا من مساري العملي والفني في وقت كنتُ دائمًا أبحث فيه عن وسيلة أعبّر بها عن نفسي وأستقل بها اقتصاديًا. منذ الجامعة، كنت أرسم وأعمل في نفس الوقت—بدأت برسم الجلابيب الفرعونية، ثم بالرسم على السيراميك والخزف وحرقه، وهو ما عزز علاقتي بالخامة واللون. بعد التخرج، عملت كفنانة جرافيك في شركة كبيرة، وكان ذلك تجربة مهمة على المستوى المهني، لكنها كانت محطة مؤقتة. كانت تمنحني الاستقرار المادي وفي نفس الوقت أعمل على تجهيز أول معرض فني لي. وحين أنهيت معرضي الأول، شعرت أن هذا هو مكاني الحقيقي، فقررت التفرغ بالكامل للرسم التشكيلي، ومنذ ذلك الوقت وأنا أعيش في قلب هذا العالم. الجرافيك كان مرحلة، لكنه أضاف لي حسًّا بصريًا مهمًا، خاصة في التكوين والوضوح البصري، لكنه لم يسرقني من هدفي الأعمق: أن أكون فنانة ترسم الحياة كما تراها، بصدق وتفاصيل.

* لوحاتك تنتصر لمفردات وعناصر وكائنات غير بشرية.. هل هو انتصار المشفق أم انتصار العادل أم انعكاس لمعاناة خاصة وشخصية؟ 

ـــ أعتقد أنه مزيج من كل ذلك، لكن الأقرب لقلبي هو انتصار العادل. في لوحاتي، أُعطي صوتًا لكائنات لا صوت لها، سواء كانت حيوانات مهددة بالانقراض، أو حدائق تُهدم، أو مبانٍ تُمحى من الذاكرة. هذه العناصر ليست فقط مفردات بصرية، بل هي رموز لكائنات كانت، وشاركتنا الحياة، ثم صمتت أو تم تجاهلها. في نفس الوقت، لا أنكر أن هناك شفقة، لأنني أشعر بالألم تجاه هذا الاختفاء البطيء، سواء كان مكانًا أو كائنًا. وربما أيضًا فيها شيء من المعاناة الشخصية، لأنني أرى في هذه الكائنات والمفردات شيئًا من هشاشتنا الإنسانية، من فقدنا، من الضعف الذي لا نعترف به، ومن ثم، فإن لوحاتي ليست عن الطبيعة فقط، بل عن علاقتنا بها، عن ما نخسره كل يوم ونحن لا ننتبه. هي دعوة للتأمل، للتريث، ولإعادة الاعتبار لما نظنه (هامشيًّا)، لكنه في الحقيقة مركز الحياة. ولهذا جاء اختياري للأسلوب التعبيري الرمزي، لأنه يسمح لي بالتعامل مع هذه المفردات ليس كعناصر شكلية فقط، بل كرموز تحمل طبقات من المعنى. الكائنات، الأماكن، والألوان في لوحاتي تتحول إلى لغة خاصة، تقول ما يصعب قوله بالكلمات، وتعكس ذلك التوتر المستمر بين الضعف والعدالة، بين الفقد والأمل.

* ما سر اختيار منحوتات (الحمار) كأيقونة فنية في أحد المهرجانات الخيرية بالعاصمة البريطانية لندن؟ وهل تؤمنين بجدوى الإسقاط الفني؟ 

ــــ أيقونة الحمار في هذا المهرجان، لم تكن من اختياري، بل من اختيار منظم معارض(الكرفن). و عموماً الحمار كائن يُنظر إليه كثيرًا بنوع من التحقير أو السخرية، رغم أنه في الحقيقة رمز للصبر، التحمل، والتواضع. هو كائن مظلوم، سواء في الواقع أو في المخيلة الشعبية، تمامًا مثل كثير من الفئات المهمشة أو الكائنات التي لا تُرى رغم حضورها الكبير في الحياة اليومية، وفي هذا السياق، كان الحمار أيقونة مثالية للمهرجان الخيري الذي حمل عنوان(في السلام والرحمة) عام 2016 في العاصمة لندن، في إشارة إلى أن السلام لا يُبنى من الأعلى فقط، بل من الاعتراف بالآخر المختلف، والتعاطف مع من لا يُنظر إليهم على أنهم(أبطال) أو (رموز تقليدية). أما عن الإسقاط الفني، فأنا أؤمن به جدًا، بل أراه من أذكى أدوات الفن التشكيلي.

التشكيلية كاريل حمصي لأرابيسك لندن: لوحاتي أسئلة مفتوحة عن الجمال المفتقد!

عندما نُسقط معانٍ إنسانية أو اجتماعية على كائنات غير بشرية، نخلق مسافة تأمل تسمح للمُتلقي أن يُعيد النظر في قناعاته وتحيّزاته. الكائن المختلف في الشكل أو الهوية يمكن أن يصبح مرآة لنا، وتلك هي قوة الرمز في الفن. وقد تم اختيار ثمثال حماري (تلكبي) للبيع في قاعه Sotheby’s و حصل علي أعلي مزاد ضمن المجموعه المعروضه التي تم اختيارها للعرض في القاعه، و قد تم اقتناء واحد من التمثالين الاصغر حجما من النجم (Jim Carrey) وهو موجود حالياً في بيته في نيويورك. و بالنسبة لي، كانت لحظة فخر كبيرة؛ لأن هذا ليس مجرد بيع عمل فني، بل هو اعتراف بقيمة الموضوع والرمزية التي يحملها العمل، وبأن قضايا الرحمة والسلام التي تعبر عنها أعمالي لها مكانة وأهمية في الساحة الفنية الدولية.

* كيف كان تفاعل الجمهور اللندني مع هذا المهرجان في ظل ندرة ارتباط بيئة التشكيل الفني في المملكة المتحدة بالحمار كموروث  فني؟ 

ــــ تفاعل الجمهور اللندني مع المهرجان، كان تجربة فريدة ومثيرة، رغم أن الحمار ليس جزءًا من الموروث الفني البريطاني، ولا يحمل نفس الرمزية التي لديه في مجتمعاتنا، إلا أن التفسير الرمزي والإنساني للفن كان واضحًا ومؤثرًا بالنسبة لهم، ولذلك استقبل الجمهور العمل بتساؤلات وفضول، مما فتح حوارًا ثقافيًا حول قيم الصبر، التواضع، والرحمة التي يمثلها الحمار، بعيدًا عن الصور النمطية. وكان ذلك بمثابة جسر بين ثقافتين مختلفتين، يظهر كيف يمكن للفن أن يتجاوز الحدود ويتواصل عبر الرموز المشتركة في الإنسانية، وهذا ما لمسناه في ردود الفعل التي كانت إيجابية ومشجعة، والتي أثبتت أن الفن يمكن أن يعبر عن قضايا ومفاهيم تتخطى الاختلافات الثقافية.

اقرأ أيضاً: الأوكرانية تيتيانا كروشينينا لأرابيسك لندن: الفن لا يمنع الحرب ورسالتي هي الجمال وخيال جمهوري!

* هل حدث نفس الشيء مع لوحة (خلف القناع .. من أنت؟) التي عرضت في لندن أيضاً؟ 

ـــ هذه اللوحة تُعد من أقرب أعمالي إلى قلبي، لأنها تجاوزت حدود الفن البصري لتتحول إلى حوار إنساني وروحي عابر للثقافات. وقد تم عرضها في عدد من الدول منها الأردن، إيطاليا، باريس، لندن، وأمريكا، لكنها حملت طابعًا خاصًا عندما عُرضت في (كنيسة سانت مارتن St Martin-in-the-Fields) في لندن؛ لأنها في تلك اللحظة، لم تكن مجرد لوحة، بل كانت صوتًا يتحدث عن الإنسان خلف القناع، عن الهوية، والبحث عن الحقيقة وسط تعدد الأديان والخلفيات. وأتيحت لي الفرصة أن أُلقي كلمة أمام جمهور كبير ومتنوع دينيًا وثقافيًا، مثّلت فيها فناني مصر في ذلك الحدث الرمزي المؤثر، وكان من بين الحضور ممثلون عن الديانات السماوية—المسيحية والإسلامية وغيرهما مثل: (Justin Welby Archbishop of Canterbury) حيث كان تأثير اللوحة على المجتمع الإنجليزي عميقًا وصادقًا.

التشكيلية كاريل حمصي لأرابيسك لندن: لوحاتي أسئلة مفتوحة عن الجمال المفتقد!

لأنها لامست مساحات من التساؤل المشترك بين البشر مهما اختلفت خلفياتهم: من نكون خلف ما نُظهر؟ وهل القناع حماية أم عزل؟ شعرت وقتها أن الفن يستطيع أن يُقرب القلوب، ويفتح أبواب الحوار دون كلمات.

* هل كانت مفاجأة بالنسبة لك أن تحتل لوحة (مصر الحرية) شاشة عرض كبيرة في متحف وجاليري ساتشي الإنجليزي؟  

ــــ بالفعل، كانت تجربة رائعة ومفاجئة في الوقت نفسه، و هذا التكريم جعلني أشعر بأن المواضيع التي أتناولها—مهما كانت محلية أو مرتبطة بتراثنا—يمكنها أن تلامس وجدان الآخرين في أي مكان بالعالم؛ لذا شكلت هذه اللحظات نقطة تحول في مسيرتي الفنية، لأنها منحتني ثقة أكبر في رسالتي وفي قدرتي على التعبير عن قضايا إنسانية عميقة من خلال الفن. كما فتحت أمامي أبوابًا جديدة للتواصل مع جمهور أوسع، وألهمتني الاستمرار في استكشاف المواضيع التي تهمني بأساليب أكثر جرأة وتجديدًا. لقد شعرت حقًا أن كل لوحة أو منحوتة يمكن أن تكون صوتًا لمن لا صوت له.

* من أين تستمدين صبرك على رصد التفاصيل الدقيقة في لوحاتك.. هل هو الحافز الاقتصادي أم حافز الشهرة والحضور أم هو الولع بطاقتك الإبداعية ورغبتك في التحاور مع محيطك المحلي والعالمي عبر الريشة والألوان؟ 

ــــــ صَبْري على رصد التفاصيل الدقيقة في لوحاتي ينبع في المقام الأول من الولع الحقيقي بعملي الإبداعي ورغبتي في التحاور مع العالم من حولي. التفاصيل بالنسبة لي ليست مجرّد زخرفة أو تعقيد، بل هي لغة تعبيرية تسمح لي بنقل الأحاسيس والرسائل بصدق وعمق. الحافز الاقتصادي أو الشهرة قد يكون جزءًا من الواقع، لكنه ليس الدافع الأساسي. أكثر ما يُشعل شغفي هو الإحساس بأن كل لون، وكل خط، وكل طبقة في اللوحة تحمل قصة، أو تساؤلاً، أو تذكيراً بما نعيشه ونفقده. وأنا أرى في الرسم حوارًا مستمرًا مع محيطي المحلي والعالمي، وهو ما يجعلني أتمسك بالتفاصيل وأعطيها الوقت والاهتمام الذي تستحقه. هذا الصبر هو تعبير عن احترامي للعمل، وعن إيماني بأن الفن قادر على التغيير والتأثير. وهذا ينعكس بشكل واضح في نتائج لوحاتي، حيث تتداخل الطبقات وتتشابك التفاصيل لتخلق عمقًا بصريًا ووجدانيًا يُمكّن المشاهد من الدخول إلى عوالم اللوحة والتفاعل معها على مستويات متعددة. ومن خلال هذا الالتزام، أشعر أنني أقدّم أعمالًا لا تكتفي بأن تُرى فقط، بل تُحسّ وتُفكر، ما يجعل الرسالة التي أريد إيصالها أقوى وأكثر تأثيرًا.

* المرأة في أعمالك تستوفي عناصر غير محدودة من حيث الإلماحات والمفاهيم الرمزية بما في ذلك عنصرى الأنوثة و الجسد.. هل ساورك بعض القلق من توظيف هذين العنصرين فنياً ضمن سياق مجتمعك الشرقي المحافظ؟ 

ــــ المرأة في أعمالي ليست مجرد جسد أو صورة سطحية، بل هي رمز متعدد الأبعاد يحمل العديد من الإلماحات والمفاهيم التي تتجاوز الشكل الخارجي. أؤمن بأن الجسد الأنثوي في الفن هو لغة تعبيرية قوية تسمح لي بنقل قضايا المرأة، الهوية، القوة، والضعف، وحتى التحديات التي تواجهها في مجتمعاتنا.بالطبع، أعي تمامًا حساسية هذا الموضوع في سياق مجتمعنا الشرقي المحافظ، وقد يكون هناك بعض القلق، لكنني أعتبر الفن مساحة حرة تسمح لي بالتعبير عن هذه الأفكار بطريقة محترمة وذكية، لا تثير فقط الجدل، بل تفتح باب الحوار والتفكير.

التشكيلية كاريل حمصي لأرابيسك لندن: لوحاتي أسئلة مفتوحة عن الجمال المفتقد!

وهدفي هو تقديم المرأة بكل تعقيدها وجمالها وقوتها، وليس مجرد استعراض الجسد. وأعتقد أن الجمهور القادر على قراءة اللوحة يتفهم هذا البعد الرمزي ويتفاعل معه بشكل إيجابي. و المرأة كانت دائمًا مصدر إلهام في فني، ليس فقط كرمز جمالي، بل ككائن يحمل الحياة، ويقاوم، ويتحمّل، ويعبّر عن واقع معقد من الصراعات والآمال. في كل لوحة تمثّل فيها المرأة، أحاول أن أستحضر هذه الطاقات المتعددة، وأن أقدمها كصوت، لا كموضوع للمشاهدة فقط.

اقرأ أيضاًَ: الذكاء الاصطناعي هل يسرق إبداع الفنانين في بريطانيا؟

* لو قمنا بتقسيم مشوارك الفني إلى أنماط ومحطات لونية مرحلية ومتدرجة ماذا يمكن أن يكون توصيف هذه المحطات أو بمعنى أوضح كيف كانت مساحتك اللونية في البدايات وكيف أصبحت الآن؟ 

ـــــ إذا قسّمت مشواري الفني إلى محطات لونية، يمكنني القول إن بداياتي كانت غريزية وانفعالية، تميل إلى الألوان الأساسية القوية والمباشرة، نتيجة تأثري بالمدرسة الوحشية التعبيرية، حيث كنت أستخدم اللون كأداة للتفجير العاطفي والتعبير اللحظي. مع الوقت، بدأت المساحة اللونية في أعمالي تتطور، فأصبحت أكثر طبقية وثراءً، وبدأت أستخدم طبقات متعددة من اللون، ليس فقط لتكوين الشكل، بل لبناء الإحساس والرمز والعمق النفسي داخل اللوحة. في المراحل الأخيرة، أصبحت أتعامل مع اللون بشكل أكثر وعيًا وهدوءًا، فأستخدم التضاد، الشفافية، والخامات لإيصال معانٍ مركّبة. لم يعد اللون فقط أداة جمالية، بل أصبح جزءًا من بنية الفكرة نفسها، يعكس الذاكرة، الزوال، أو الحياة التي تقاوم الفقد. فيمكن أن نقول إن فتره الثمانينات و التسعينات تمثلها (المرحله الحمراء)، ثم فترة (الزرقات) ثم (الخضرة) حالياً.

* ماذا عن الرسائل الفنية الكامنة وراء مجمل عناوين معارضك؟ وهل تفضلين المزج بين الموضوعات ضمن لوحات المعرض الواحد أم تميلين أكثر إلى وحدة الموضوع الفني العام للمحتوى المعروض؟ ولماذا؟ 

ــــ عناوين معارضي ليست مجرد تسميات، بل هي بوابة فكرية وفنية إلى المحتوى. أختارها بعناية لأنها تختزل الحالة الشعورية والرسالة التي أحملها في كل معرض. غالبًا ما تحمل هذه العناوين أبعادًا رمزية، وتُشير إلى قضايا كبرى مثل الانقراض، الحرية، الهوية، أو العلاقة بين الإنسان ومحيطه. و أنا أميل إلى وحدة الموضوع الفني العام في كل معرض، لأنني أتعامل مع المعرض كمنظومة فكرية وبصرية متكاملة، لا كعرض منفصل للوحات. هذا لا يعني أن اللوحات لا تتنوع في التفاصيل، بل بالعكس، كل لوحة تتناول زاوية مختلفة من الفكرة الكبرى، فتُغني المعرض وتُعمّق رسالته. وتمنحني وحدة الموضوع تركيزًا أكبر، وتمنح الجمهور أيضًا تجربة متماسكة، تُثير التفكير وتترك أثرًا أو تساؤلًا واحدًا واضحًا، حتى وإن جاءت الإجابات متعددة.

* إلى أي حد ترين لوحاتك معبرة عن صدمة الفنان تجاه واقعه المتردي؟ وكيف يمكن توظيف خيال الفنان توظيفاً داعماً لتغيير ذلك الواقع؟ 

ــــ كثير من مضمون لوحاتي هو بالفعل تعبير عن صدمة الفنان تجاه واقع متردٍ، وتجاه ما نفقده يومًا بعد يوم من الطبيعة، والهوية، والذاكرة الجماعية. سواء كنت أرسم مكانًا مهددًا بالزوال، أو كائنًا منقرضًا، أو مشهدًا رمزيًا يحمل دلالات اجتماعية أو سياسية، فهناك دائمًا إحساس بالقلق، بالحزن، وربما بالغضب الصامت. ولكني لا أتعامل مع الفن كأداة للشكوى فقط، بل أؤمن أن الخيال الفني هو وسيلة مقاومة.

التشكيلية كاريل حمصي لأرابيسك لندن: لوحاتي أسئلة مفتوحة عن الجمال المفتقد!

من خلال الرموز، واللون، والتكوين، أستطيع أن أعيد بناء عالم بديل، أكثر عدلًا أو وعيًا، وأفتح للمشاهد نافذة للتفكير وإعادة النظر. والفنان ليس في استطاعته تغيير الواقع مباشرة، لكنه يزرع التساؤلات، ويوقظ المشاعر، ويخلق لغة بصرية تلمس الوعي بعمق. وهذا، بالنسبة لي، هو دور الفن الحقيقي: أن يكون مرآة وجرس إنذار وأملاً في الوقت نفسه. ليس المطلوب من الفنان أن يقدم حلولًا، بل أن يثير الوعي، ويُذكّر، ويُقاوم النسيان. وهنا تتجسد مسؤولية الفنان الأخلاقية والجمالية في آنٍ واحد، والفن عندي ليس هروبًا من الواقع، بل تحدٍ له ومحاولة لتغييره من الداخل.

* البعض يصنف أعمالك ضمن سياق ما يسمى بالمدرسة التعبيرية أو المدرسة الوحشية الهادفة إلى استبطان المشاعر عبر الفن.. إلى أي المدارس تصنفين عالمك الفني ومحتواك التشكيلي؟   

ــــ بداياتي كانت متأثرة بالمدرسة الوحشية التعبيرية، حيث كنت أستخدم اللون والانفعال بشكل مباشر وحاد للتعبير عن المشاعر. لكن مع تطور تجربتي، أصبح عالمي الفني أقرب إلى مزيج خاص بين التعبيرية والرمزية. التعبير عندي ما زال أساسيًا، لكنني أُحمّله رموزًا ودلالات تتجاوز اللحظة الشعورية لتلامس قضايا أعمق—وجودية، بيئية، سياسية، وإنسانية. وبصفة عامة، لا أحب أن أحصر نفسي في تصنيف واحد، لأنني أرى أن الأسلوب يجب أن يخدم الفكرة، وليس العكس.

التشكيلية كاريل حمصي لأرابيسك لندن: لوحاتي أسئلة مفتوحة عن الجمال المفتقد!

في بعض الأعمال، أقترب من الرمزية الصوفية، وفي أخرى أستخدم البناء الواقعي ثم أُفككه داخل اللوحة. لذلك، أعتبر عالمي التشكيلي تجربة مفتوحة ومتطورة، تنتمي أولًا لما أؤمن به وأشعر به، ثم لما يخدم المضمون بصريًا وفكريًا، حتى لو تشابهت مع مدارس أو اقتربت من تيارات معروفة. ورغم هذا التقاطع مع بعض المدارس، إلا أنني أحرص دائمًا على أن يكون لي أسلوبي الخاص، الذي يتميز بكثافة التفاصيل، تعدّد الطبقات اللونية، والبعد الرمزي العميق. ما يهمني ليس الانتماء لمدرسة بحد ذاتها، بل أن تُعبّر لوحاتي عني بصدق، وتُحاكي المتلقي بلغة بصرية فريدة، تربط بين الذاكرة والواقع والخيال في آنٍ واحد.

* في الختام، ما الجديد القادم على المستوى الفني والتشكيلي في جعبة الفنانة كاريل حمصي؟ 

ـــــ الجديد بالنسبة لي دائمًا مرتبط بالبحث والتجريب، وبالرغبة في الذهاب أعمق، سواء على مستوى الموضوع أو الأسلوب. أعمل حاليًا على مشروع فني جديد يتناول الهوية والاختفاء ليس فقط اختفاء الأماكن والكائنات كما في معرض(الانقراض)، بل أيضًا اختفاء المعنى وسط ضجيج العالم المعاصر. وأفكر في الدمج بين الرسم التقليدي وتقنيات مختلفة مثل الطباعة أو المواد المختلطة، لأمنح اللوحة أبعادًا أكثر حدة وغموضًا. كما أنني أسعى للتوسع في العرض خارج مصر، لكن مع الحفاظ على جذوري وهويتي المصرية في كل عمل. والمقبل دائمًا سيكون محاولة جديدة للقول بصوت بصري مختلف:(أنا أرى… وأنا أشهد). وكالعادة، دائما أفاجيء نفسي مثل المتلقي تماما!!

اقرأ أيضاًَ: الباحث والفنان محمود البقلاوة يكشف أسرار حضارة دلمون وعوالم الفن التشكيلي في لقاء خاص مع أرابيسك لندن

اقرأ أيضاًَ: خبير مصري في قراءة الوجوه لأرابيسك لندن: تحليلات البيرسونولوجي ملهمة في إصلاح المجتمع وتطوير الذات!

اقرأ أيضاًَ: في صيف 2025: فعاليات استثمارية كبرى في لندن بتنظيم سعودي-بريطاني

X