مقالات
قطاع الموانيء البريطاني قوة اقتصادية محفوفة بمخاطر المرحلة وشراسة المنافسين.. ماذا عن موانيء الخليج؟
نشر
منذ 12 شهرفي
650 مشاهدة
By
Baidaيشكل قطاع الموانيء العصب الأساسي لحركة التجارة والشحن في عموم المملكة المتحدة داخلياً وخارجياً؛ حيث تحتل لوجيستيات هذا القطاع ثاني أكبر القطاعات الصناعية في القارة الأوربية، وذلك في ضوء الحجم الهائل لقوة التشغيل المجملة، والتي تقارب الــ 500 مليون طن من الشحن السنوي، إلى جانب كثرة عدد الرحلات المتداولة، والتي تزيد بدورها على 60 مليون رحلة دولية ومحلية سنوياً، بالإضافة لارتباط حركة الموانيء بقوة تشغيل وظيفية مباشرة للبريطانيين تزيد على مائة ألف شخص.
كتب: محسن حسن
وتتنوع موانيء بريطانيا وفقاً لطبيعة الأسواق والخدمات، فهناك موانيء يقوم بتشغيلها القطاع الخاص، وأخرى مملوكة للسلطات المحلية تقوم بتشغيلها البلديات المختلفة، بينما يوجد نوع ثالث، و هو الموانيء الائتمانية أو (موانيء الثقة)، وهي تدار على أيدي هيئات مستقلة، وفق قوانين وتشريعات خاصة صادرة عن البرلمان.
وجميع هذه الموانيء مؤسسات ذاتية التمويل والتشغيل والاستثمار، ودون دعم رسمي، وهي تستحوذ على أكثر من 95% من واردات وصادرات البضائع التي ينتمي معظمها لفئة المواد الخام كالنفط والكيماويات والبترول والحبوب والأعلاف، إلى جانب بعض السلع تامة الصنع كالمركبات والآلات والأطعمة الطازجة وغيرها.
اقتصاد الموانيء
وتتضح الأهمية الاقتصادية للموانيء الإنجليزية من حجم مردودها المالي والتجاري والخدماتي والاستراتيجي أيضاً؛ فبنظرة تقييمية سريعة، يتبين لنا قوة هذا المردود وعمق تأثيره في حياة البريطانيين المعيشية، بل وفي حياة الإمبراطورية البريطانية عموماً؛ فإلى جانب الدور الجيوسياسي الذي تلعبه هذه الموانيء باعتبارها ركائز استراتيجية مدخرة ضمن منظومة الأمن القومي البريطاني، تتعدد الإسهامات الاقتصادية والتنموية التي تقدمها هذه الموانيء، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؛ إذ تعد أحد أدوات الربط التجاري مع باقي الدول، كما تساهم بفاعلية في تنشيط الأسواق المحلية بطول البلاد وعرضها، ما يولد العديد من أنماط المهن والحرف والصناعات، وهو ما يعمل في النهاية على تعزيز مكانة بريطانيا كمحور رئيسي من محاور التجارة العالمية.
بالإضافة لإسهام الموانيء في الجذب الاستثماري والسياحي ودعم الإعمار وتحفيز الأيدي العاملة على الإنتاج ودعم الناتج المحلي الإجمالي، من خلال ما تبثه في محيطها من أنشطة ملحقة وصناعات مساعدة، الأمر الذي يفضي مجملاً إلى رفع مستويات التنمية الاقتصادية والبشرية، وتكثيف النهوض بمفردات وعناصر البنية التحتية اللازمة للتشغيل والإدارة، إلى جانب رفع معدلات الجدارة المالية والاستثمارية، محلياً وإقليمياً ودوليا، وتحصين الميزان التجاري والموازنة العامة ضد منعطفات الاقتصاد الدولي والأزمات المالية العالمية.
الأكثر تأثيراً
ومن جهة إحصائية ميدانية، تعكس الموانيء البريطانية الأكثر حراكاً وديناميكية، قوة كبيرة على المستوى التجاري والاقتصادي والمالي؛ إذ تمتلك البلاد قرابة الــ 400 ميناء، وجميعها على اختلاف أحجامها ومساحاتها، تساهم في دعم الاقتصاد الوطني، وتمثل موانيء: فلكستاو، إمينجهام، نيو بورت، لندن، ليفربول، ميلفورد هافن، ساوثهامبتون، وغيرها، رأس الحربة في هذا الدعم؛ فعلى سبيل المثال، يعد ميناء فلكستاو أكبر موانيء الحاويات في بريطانيا، وهو يتعامل مع قرابة الــ4 مليون حاوية، ويقدم خدمات منتظمة لـــ 700 ميناء حول العالم، وهو يحتل المرتبة 35 في مؤشر الأمم المتحدة لربط السفن الملاحية، ويشغل نشاطه أكثر من 45% من حركة الشحن والتجارة البريطانية.
أما ميناء(ساوثهامبتون) فهو يمثل نقطة اتصال رئيسية لسلسلة التوريد، وهو مسؤول عن 40 مليار دولار من صادرات المملكة المتحدة سنوياً، كما أنه الميناء البريطاني الأكبر للسيارات؛ حيث يتعامل مع حوالي 900 ألف سيارة سنويا، إلى جانب الرحلات البحرية وملايين الركاب.
في حين يعد ميناء(نيوبورت) أحد الموانيء الرائدة في دعم صناعة الصلب على مستوى انجلترا وويلز؛ فبحسب وزارة النقل البريطانية، شهد عام 2022 قيام الميناء بتصدير ما يقرب من 600 ألف طن من الفولاذ، متفوقاً بها على 14 ميناءً تتعامل مع الصناعة ذاتها؛ إذ تمثل هذه القيمة 72% من إجمالي منتجات الحديد والصلب المصدرة من الموانيء الرئيسية، ويتفوق الميناء أيضاً من حيث إجمالي حمولة الصلب، بواقع 1.4 مليون طن شكلت 24% من جملة منتجات الصلب في البلاد خلال العام نفسه، ويعد (نيوبورت) أكبر موانيء الشحن في ويلز، ولا تقتصر صادراته على الصلب فقط، وإنما يتم من خلاله تصدير المعادن والمنتجات الزراعية وأدوات البناء والمعادن المعاد تدويرها ومنتجات الغابات، وهو يتعامل مع ما يقرب من مليار دولار من التجارة سنويا، كما أن الميناء يدعم 4100 وظيفة على المستوى الوطني، ويساهم بمبلغ 275 مليون دولار في الاقتصاد كل عام. وبصفة عامة، تعد الموانيء البريطانية هي القاطرة الأساسية لنقل 95% من التجارة الدولية إلى المملكة المتحدة.
إرباك فليكستاو
وفي ظل الأهمية الاقتصادية والتجارية القصوى للموانيء البريطانية، فإن أي خلل طاريء في إدارتها أو تشغيلها، يترتب عليه أضرار بالغة للاقتصاد المحلي؛ فبالإضافة لتعطيل سلاسل التوريدات(شراء/تصنيع/تخزين/نقل)، وإصابة الأنشطة التجارية بالشلل، توجد أضرار كبيرة أخرى، مثل تفاقم مشكلات النقل الوطنية، وارتفاع مخاطر الأضرار البيئية، وتجميد حركة الربط مع الجزر المختلفة، وفقدان دور الموانيء الحيوي في دعم صناعة الطاقة البحرية، ودعم تجارة الخطوط الملاحية، إلى جانب الأضرار السياحية وتعميق البطالة داخل المجتمعات المحلية التي تلعب الموانيء دوراً كبيراً في علاجها وتحجيمها.
وجميع هذه التهديدات، بدت واضحة للعيان في بريطانيا، خلال السنوات الأخيرة؛ فمنذ فترة الإغلاق الخاصة بكوفيد19، والموانيء البريطانية تشهد حالة إرباك شديدة، بدأت بقرارات إدارية خاطئة، أدت إلى نقص حاد في عدد العمال والموظفين بميناء(فلكستاو)، ما أفضى إلى إعاقة حركة الشحن في الميناء وعدم قدرة السفن على إفراغ بضائعها، ومن ثم اضطرارها إلى البحث عن موانيء بديلة في دول مجاورة، للتمكن من معاوادة شحن حمولاتها مرة أخرى في سفن صغيرة الحجم تمهيداً لإعادة توجيهها إلى بريطانيا، وهو ما تكرر بدوره في موانيء بريطانية أخرى كمينائى(لندن) و(ساوثهامبتون)، وتكبدت معه شركات عديدة تكلفة مضاعفة للشحن والتخزين، ثم تطورت وتيرة الإرباك بفعل مستجدات الأوضاع المحلية والدولية، والتي يأتي في مقدمتها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما تفاقمت معه المشكلات أكثر في جميع الموانيء الأكثر ازدحاماً، وخاصة بعد حركة الإضرابات المتنامية التي ضربت البلاد مؤخراً.
ضغوط مضافة
وبالتأمل الدقيق، تتبين عدة أمور؛ أولها يتجسد في أن ما تمر بها البلاد من أزمة اقتصادية رفعت تكلفة المعيشة، سيضاف إليه عبء جديد يسمى(قضايا سلسلة التوريد)، وهي قضايا خاصة بنقل المنتجات والسلع والبضائع، يعد السبب الأساسي فيها داخل بريطانيا، عدم قدرة البنية التحتية للنقل، على مواكبة متطلبات التوريد، في ظل الانتشار الكبير لأنماط الإضراب ورفض العمل بين البريطانيين، وخاصة إضرابات قطاع النقل والسكك الحديدية وقطاع الموانيء، وهو ما أصبح يساهم إلى حد كبير في تشكيل ضغوطات كبيرة على الموانيء الرئيسية؛ فخلال أغسطس من العام الماضي على سبيل المثال، انخرط 2000 عامل من عمال نقل البضائع والخدمات اللوجستية في ميناء (فلكسستاو) في إضراب و نزاع على الأجور، بعد رفضهم زيادة نسبتها 7% ومكافأة قدرها 500 دولار من شركة (فلكسستاو دوك) و(السكك الحديدية)، وهو ما تسبب في ازدحام شديد ضمن سلاسل التوريد داخل الميناء، حتى أن (الرابطة الدولية لوكلاء الشحن البري) أعربت عن شكواها من سوء الخدمة في الميناء على مدار عامين متتاليين.
وفي ظل وجود 11 مليار طن من البضائع يتم نقلها عبر موانيء العالم، بواقع 1.5 طن لكل شخص، ندرك إلى أي حد يمكن أن تعاني الموانيء البريطانية ومعها سلاسل التوريد من الموردين والعملاء والشركات، جراء هذه الوضعية المتأزمة على المستوى النقابي والعمالي في البلاد.
مخاطر مرحلية
الأمر الثاني، يتجسد في أن مخاطر المرحلة الانتقالية الراهنة التي تمر بها بريطانيا، فيما يتعلق بالخروج من الاتحاد الأوروبي، إلى جانب ما يمر به المجتمع الدولي من تداعيات أزمة روسيا/أوكرانيا، أصبح يدلي بدلوه في مشكلات الموانيء البريطانية؛ فإلى جانب انشغال الحكومة البريطانية بتداعيات الحرب الراهنة، وتأثير هذا الانشغال على الدور الواجب القيام به رسمياً تجاه ضبط حركة الموانيء وعلاج مشكلاتها المتفاقمة بمرور الوقت، أضيفت تداعيات (بريكست) كعامل ضغط آخر؛ حيث تدور في الكواليس خلافات صارخة بين مشغلي الموانيء البريطانية من جهة، والحكومة من جهة أخرى، على خلفية الكثير من الإشكاليات؛ منها على سبيل المثال، التعديلات الجديدة في إجراءات ورسوم وقواعد التفتيش الجمركي، وما يرتبط بها من احتمالات تعريض مبدأ تكافؤ الفرص لاختلالات ترجح كفة مشغلي بعض الموانيء على آخرين، بالإضافة لإشكاليات شبيهة، منها ما يخص نسبة الحصص السلعية المقرر إخضاعها للتفتيش ضمن بضائع الاتحاد الأوربي، إلى غير ذلك من الأمور المعلقة، والتي تساهم ــ حال استمرارها ــ في الإضرار بقدرة الموانيء البريطانية على مجاراة المنافسين الدوليين ضمن قوائم ومؤشرات الجدارة الفنية للموانيء عالمياً.
هيمنة خليجية
وبتتبع إحصاءات مؤشر أداء موانيء الحاويات الصادر عن (البنك الدولي) ومؤسسة(ستاندرد آند بورز) الدولية لعام 2022م، نستطيع إدراك حجم المنافسة الفنية واللوجيستية وفق المعايير الدولية التي يمكن أن تواجهها الموانيء البريطانية، إذا ما قيست بموانيء متقدمة أخرى على مستوى العالم، وخاصة تلك التي تتصدر قائمة هذا المؤشر من الموانيء الخليجية على سبيل المثال؛ حيث تفوق (ميناء صلالة) العماني و(ميناء خليفة) الإماراتي و(ميناء حمد) القطري، وبفارق كبير في الترتيب على الموانيء البريطانية؛ فقد حل م(صلالة) في المركز الثاني للمؤشر، وحل م(خليفة) في المركز الثالث، بينما حل م(حمد) في المركز الثامن.
وهذه ليست المرة الأولى التي تسيطر خلالها الموانيء الخليجية على هذا المؤشر، ففي عام 2021، حل (ميناء الملك عبدالله) في المملكة العربية السعودية، في صدارة ترتيب المؤشر، متفوقاً على موانيء العالم، تلاه م صلالة في المركز الثاني، ثم م حمد في المركز الثالث، ثم م خليفة في المركز الخامس، ثم م جدة السعودي في المركز الثامن، وهو ما يعني أن التنافسية الدولية في مجال تطوير الموانيء، تسجل أفضلية لمنطقة الخليج، مقابل تراجع ملحوظ في معايير التنافس لدى الموانيء البريطانية بفعل العوامل التي سبق ذكرها.
استراتيجيات شرسة
وتؤشر التوقعات المستقبلية المتعلقة بحجم التنافسية الإقليمية والدولية في منطقة الخليج، إلى صعود متنام لما يمكن تسميته بــ(حرب الموانيء) والمقصود هنا، هو الحرب بمعناها الاقتصادي المحموم وليس العسكري بالطبع؛ حيث ستزداد شراسة التنافس بين الموانيء الخليجية، وما سواها من موانيء العالم، لتحقيق مستويات غير مسبوقة من التطوير والأتمتة والتعزيز اللوجيستي المحكم والمستدام تقنياً وتكنولوجياً، وهو ما ستظهره لاحقاً موجة الاستراتيجيات الخليجية المنطلقة نحو التعزيز والتنويع الاقتصادي بسرعة الصاروخ، وعلى رأسها استراتيجية 2030 في السعودية وقطر والإمارات، ونظيراتها في عمان والكويت وباقي دول الخليج، وهي الاستراتيجيات المحفَزة باستثمارات عملاقة وتنافسية، وبضمانات ائتمانية ومالية ذات تصنيف متقدم، بمساندة المخزونات الهائلة والاحتياطية من النفط والغاز، وهو ما يرجح أن تواجه الموانيء البريطانية صعوبات متعددة في مجال التنافس مع نظيراتها في دول الخليج العربي، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار حالة الانعتاق الأمريكي بعيداً عن الخليج والشرق الأوسط في اتجاه آسيا، مقابل التلاحم الصيني/الخليجي، والذي تقوده (بكين) باقتدار عبر انخراطها الاقتصادي ومؤخراً السياسي، وأيضاً عبر كيانات وتكتلات اقتصادية جديدة وناشئة، كتحالف(بريكس) الخماسي، والذي يتوقع له النجاح مستقبلاً في استقطاب فوى الخليج الاقتصادي، وهو ما تدركه تلك القوى بدورها جيداً وتعمل على توظيفه واستغلاله، وفي كل هذا سيكون صراع الموانيء شرساً ومحموماً في خلفية المشهد.
تطلعات لندن
وبعيداً عن ميدان تنافسية الموانيء ضمن مؤشرات القياس الدولية، فإن قوة الاقتصاد البريطاني باعتبارها انعكاساً للمردود المالي والتجاري والاستثماري والسياحي للموانيء الملكية، تُحتم البحث عن علاجات حاسمة لأية اختلالات قائمة في هذا القطاع، وخاصة في ظل أوضاع اقتصادية خانقة وشائعة في عموم بريطانيا، وأول هذه الاختلالات استمرار نقص العمالة منذ إغلاق الجائحة وحتى الآن، وضبابية الموقف الحكومي تجاه الكشف عن التفاصيل الدقيقة لآليات إدارة وتشغيل الموانيء الرئيسية ومعايير التحصيل الجمركي خلالها وفق مقتضيات بريكست.
وبرغم التطمينات التي تحملها بيانات (ريتشارد بالانتين)، الرئيس التنفيذي لجمعية الموانئ البريطانية، والتي تؤكد أن قضايا الازدحام مؤقتة، وأن الغالبية العظمى من موانئ المملكة المتحدة، تعمل بشكل طبيعي، إلا أن البيانات ذاتها، حملت اعترافاً ضمنياً بوجود مشكلات في تخزين البضائع، وتراكم الحاويات، وسرعة جمع البضائع، وبالتالي تعرض معظم الموانيء لضغوط غير مسبوقة، ومن ثم فإن هذه التطمينات غير كافية، خاصة مع ما تحمله من تفسيرات نمطية وأسباب سطحية كعزو حالة الازدحام لزيادة طلبات البريطانيين المستوردة قبل أعياد الميلاد، وهو ما يعني إغفال أسباب عميقة أخرى قد تكون موجودة، كشبهات فساد مثلاـ وإلا فلماذا تظل موانيء بريطانيا بعيدة عن منصات التتويج في مؤشر الحاويات؟ ولكن على أية حال نتمنى أن يشكل مؤتمر جمعية الموانيء المنعقد مؤخراً في لندن، فرصة مواتية لتعزيز إصلاحات هذا القطاع، واستعادة شفافيته وإسهاماته الفاعلة في دعم اقتصاد بريطانيا وتحسين حياة مواطنيها.