في شوارع لندن ومانشستر وكارديف، يبدو المستقبل وكأنه يتكلّم همساً: صفوف دراسية تتقلّص، ودوائر رعاية تبحث عن ممرضات ومعلمين لا يأتون، وميزانية دولة تحاول أن تُسعّف تقاعداً يزداد ثقلاً على كتفيها. ليست هذه حكاية تشاؤمية بقدر ما هي لوحة سكانية تتبدّل بسرعة. فبريطانيا عند عتبة انتقال ديموغرافي عميق؛ السؤال لم يعد: هل يتراجع الإنجاب؟ بل: كيف نتعامل مع نتائجه، وبأي سياسات يمكن تحويل الأزمة إلى فرصة متوازنة للمجتمع والاقتصاد؟
معدّل الخصوبة في بريطانيا: الأرقام التي لا تُجامل
تُظهر أحدث بيانات مكتب الإحصاء الوطني أن معدّل الخصوبة الكلي في إنجلترا وويلز هبط إلى 1.41 طفل لكل امرأة في عام 2024، وهو أدنى مستوى مُسجّل على الإطلاق وللعام الثالث توالياً. وهذا ليس تفصيلاً عابراً في تقرير دوري؛ إنه مؤشر مركزي يعيد تشكيل توزيع الأعمار، وسوق العمل، ومسارات الإنفاق العام لعقود مقبلة. ورغم أن عدد المواليد ازداد قليلاً في 2024، إلا أن نمو عدد البالغين كان أسرع، فهبط المعدّل الحسابي للخصوبة أكثر.
لماذا نهبط؟ وما الذي تكشفه التجارب؟
يرى باحثون أن ما يحدث ليس “عطباً بيولوجياً” بقدر ما هو مزيج من تأخُّر سنّ تكوين الأسرة، وارتفاع تكاليف السكن ورعاية الأطفال، وتحوّلات في سوق العمل والعلاقات، ما يفضي إلى تزايد “اللاوالدية غير المخطّطة (تعني أن يصل أشخاصٌ أو أزواج إلى منتصف العمر أو نهايته من دون أطفال، ليس لأنهم اختاروا ذلك عمداً، بل لأن الظروف الاجتماعية أو الصحية أو الاقتصادية قادتهم إلى هذه النتيجة – involuntary childlessness)” لدى شريحة من الشباب. إنجلترا وويلز ليستا استثناءً عالمياً؛ بل جزءاً من موجة دولية نحو خصوبة منخفضة وشيخوخة سريعة، مع ما يرافق ذلك من ضغوط على التعليم والرعاية والمالية العامة، لكن أيضاً من حجج بيئية لبعض الباحثين الذين يرون في التراجع فوائد محتملة على الاستهلاك والموارد. الصورة إذن معقّدة، وتحتاج إلى سلة حلول متوازنة لا شعاراً واحداً.
ما العمل؟ سياسات عملية لتخفيف كلفة القرار الإنجابي
ببساطة: لا سياسة واحدة سترفع معدّل الخصوبة في بريطانيا؛ المطلوب باقة مترابطة تُخفّض كلفة تكوين الأسرة مادياً وزمنياً ونفسياً. والتوسّع الجاري في “ساعات الحضانة المموّلة” خطوة مهمّة، إذ باتت عائلات الأطفال من 9 أشهر تستحق 15 ساعة أسبوعياً في 2024، على أن تُستكمل إلى 30 ساعة بحلول سبتمبر 2025. غير أن خبراء التمويل العام والتنمية يلفتون إلى أن الأثر الفوري قد يكون في “مَن يدفع الفاتورة أكثر مما هو في زيادة المواليد”، ما يستلزم معالجة جانب العرض: زيادة طاقة دور الحضانة، تحسين أجور العاملين فيها، وضمان الجودة لتفادي اختناقات المقاعد.
ولأن قرار الإنجاب يتجاوز كلفة الرعاية إلى كلفة السكن والاستقرار المهني، لا بد من سياسة إسكان تُسرّع البناء وتدعم الإيجارات العادلة للطبقات الشابة، مع تعميم العمل المرن الذي صار واقعاً منذ الجائحة. حين تتقاسم الأسر وقت الرعاية بإنصاف عبر إجازات أبوة مدفوعة وقابلة للنقل، يخفّ “ثمن الأمومة” على مسيرة النساء الوظيفية، فيدور القرار حول الرغبة بدل القلق. وإلى جوار ذلك، تُظهر تقديرات رسمية أن التوسّع في الرعاية المموّلة قد يرفع المشاركة في سوق العمل بعشرات الآلاف، ما يعني دخلاً أعلى وأمناً وظيفياً؛ وهذه خلفية ضرورية لقرار الإنجاب، حتى إن لم تترجم تلقائياً إلى قفزة فورية في معدّل الخصوبة في بريطانيا.
الهجرة، والتكنولوجيا، ورعاية الشيخوخة: موازين دقيقة
تتوقّع تحليلات أن يظل نمو السكان في المملكة المتحدة مدفوعاً بالهجرة، ولولاها لاتّجهت الأعداد إلى الانكماش؛ لكن الاعتماد على الهجرة وحدها ليس حلاً سحرياً. فالاقتصاد يمكن أن يعوّض نقص العمالة بالذكاء الاصطناعي والأتمتة، غير أن “اقتصاد الرعاية” — من التمريض إلى رعاية المسنين — يحتاج بشراً بعلاقات إنسانية، ومن هنا ضرورة تصميم منظومة رعاية مستدامة لا ترهن توازنها بأحفادٍ أقل عدداً. التخطيط الديموغرافي الذكي يعني مزيجاً من سياسات خصوبة واقعية، وهجرة مُدارة، واستثمار كثيف في رأس المال البشري والتقنيات، حتى لا تتحوّل الشيخوخة إلى عزلة أو عبء مالي غير قابل للتحمّل.
من إدارة الأزمة إلى هندسة المستقبل
ختاماً، لن يرتفع معدّل الخصوبة في بريطانيا ببيان وزاري أو حملة دعائية. ما يمكن فعله — ويجب فعله الآن — هو جعل قرار الإنجاب ميسوراً ومنصفاً ومتوافقاً مع طموحات العمل والسكن والحياة الكريمة، مع بناء منظومة رعاية شيخوخة قادرة على الصمود. عندها فقط، تتراجع حدّة المفاضلة القاسية بين “طفل الآن” و“استقرار لاحق”، ويصبح المستقبل أقلّ همساً وأكثر وضوحاً.
اقرأ أيضاً: مشروع نايتفول البريطاني: صاروخ الردع التكتيكي الذي يعيد رسم المدى!