لم تقف جودة عيش الفرد في المملكة المتحدة على أمور تتعلق بمستوى دخله وانتمائه الطبقي ومستوى تعليمه أو الخلفية العرقية التي ينتمي إليها بل وصل الأمر إلى أن مكان عيشه يحدد مدى تلوث الهواء الذي يتنفسه والأمراض التي يمكن أن يصاب بها.
بقلم: وسيم رزوق
وإذا ضربنا مثالاً حيّاً على ذلك، سنجد أن المناطق التي يسكنها بريطانيين مهاجرين من شبه القارة الهندية أو إفريقيا وذلك شرق لندن، تعاني من نسب تلوث هواء أعلى بكثير من مناطق الطبقة الوسطى التي يسكنها الإنجليز البيض جنوب لندن.
ولهذا فإن سكان مناطق شرق لندن المكتظة والفقيرة والملوثة يعانون من أمراض الصدر والتنفس والرئة ضعف سكان مناطق جنوب لندن.
تكمن المفارقة في أن هواء الأثرياء أنظف وهواء الفقراء أكثر تلوثا كما أن هذه الفجوة بينهما تتزايد يوماً بعد يوم، فالهواء الملوث يؤثر سلباً على الصحة والدخل وفرص النمو في المستقبل.
وخلال الفترة الأخيرة، دخل عمدة لندن صادق خان في نقاش حاد مع حزب المحافظين وحزب العمال المعارض الذى ينتمى إليه خان، بعد قرار عمدة لندن توسيع دائرة منطقة الانبعاثات المنخفضة لا سيما المناطق التي لا يسمح بدخول السيارات القديمة إليها مجاناً.
الرسوم التي تم فرضها تقدر بـ 12,50 جنيه إسترليني على كل سيارة قديمة تدخل منطقة الانبعاثات المنخفضة وذلك بدءاً من 29 أغسطس الحالي.
لكن في المقابل، يعارض حزبا العمال والمحافظين خطوة توسيع النطاق الجغرافي لمنطقة الانبعاثات المنخفضة باعتبار أن الفقراء سيتحملون العبء والتكلفة.
فالفرد الذي لم يكن قادراً على شراء سيارة جديدة صديقة للبيئة، سيكون مجبراً على دفع الـ 12.50 جنيه إسترليني يوماً لاستخدام سيارتك القديمة فى تلك المناطق.
وباعتبار أن بريطانيا مقبلة على انتخابات عامة خلال الفترة المقبلة، فإن حزب المحافظين والعمال لا يريدان خسارة أصوات المتضررين من هذا القرار الذين يمثلون الملايين من سكان لندن، كذلك لا يريدان خسارة أصوات الطبقة الوسطى التي أصبحت قضية المناخ مهمة بالنسبة لهم.
معارضة القرار والسبب
دعا رئيس الوزراء ريشي سوناك وزعيم حزب العمال كير ستارمر عمدة لندن صادق خان، على إعادة النظر في قراره المتعلق بتوسيع نطاق أماكن الانبعاثات المنخفضة وذلك باعتبار أنه سيضر العائلات الفقيرة، كما اتهم آخرون عمدة لندن خان، باختلاسه وجمعه الأموال تحت حجة حماية البيئة.
لكن خان، أكد أن قرار التوسيع كان صعباً، لكنه حيوي لتنظيف هواء لندن ومعالجة أزمة المناخ، واعداً الأسر الفقيرة بتقديم دعم مالي لها والشركات الصغيرة الأكثر تضررا من توسيع منطقة الانبعاثات المنخفضة.
الحد من الظلم البيئي للفقراء، وما يترتب عليه من تفاوت صحي وفجوة اقتصادية يعتبر ضرورة بحسب وجهة نظر صادق خان ومؤيديه، فالهواء الذي يتنفس الفرد في بريطانيا يعتمد على العرق والدخل، لهذا نجد أن الأقليات لا تزال تعاني معدلات تلوث أعلى من المناطق الأفضل.
آثار ونتائج كارثية دون اكتراث
في تحليل نشره مكتب عمدة لندن، أظهر أن التباين في مستوى تلوث الهواء بين الشرائح السكانية المختلفة يؤدى إلى نتائج صحية سلبية.
فالتعرض للهواء الملوث باستمرار يمكن أن يؤدى إلى ولادة أطفال منخفضي الوزن عند الولادة، كذلك يمكن أن يؤدي إلى إعاقة نمو رئة الأطفال ويزيد من فرصة الإصابة بالربو خلال مرحلة الطفولة ويزيد من أمراض الصدر والرئة.
إحدى الدراسات التي طبقت على أكثر من 300 ألف شخص في بريطانيا عام 2019 وجدت أن مشاكل الرئة كانت واضحة بصورة خاصة على الأشخاص ذوى الدخل المنخفض أي الذين ينتمون لأصول عرقية غير بيضاء حيث يعيشون ضمن مناطق ملوثة الهواء.
لكن هذه العنصرية التي يعاني منها الفقراء وأصحاب الأعراق المختلفة في بريطانيا لا يكترث بها صناع القرار أو المؤسسات الصحية والتعليمية.
إلى جانب ذلك، يوجد نقص في الوعى لدى البريطانيين بمخاطر التلوث البيئي على الصحة العامة، تحديداً فيما يتعلق بالفئات الأكثر ضعفا مثل الأطفال وكبار السن والنساء الحوامل ومن يعانون من مشاكل صحية تؤثر سلباً على مناعتهم.
أرقام وإحصائيات حقيقية
لا عجب أن تكون إحدى أولويات عمدة لندن صادق خان، هي تقليل مستوى تلوث الهواء في العاصمة لندن باعتبارها من ضمن المدن الأكثر تلوثاً في القارة الأوربية.
وقد احتلت لندن المرتبة 18 في قائمة الدول الأكثر تلوثا في العالم خلال العام الفائت، حيث كانت الملوثات الرئيسية في لندن هي ثاني أكسيد النيتروجين والغازات التي تنبعث من السيارات ووسائل المواصلات فضلاً عن الغبار الناعم الذى يتسبب في مشاكل في الجهاز التنفسي وأمراض القلب والسرطان.
ما يزيد حدة التلوث أيضاً في العاصمة البريطانية هو عدد سكان المدينة الكبير الذي يقدر بحوالي 10 ملايين نسمة، ومستويات حركة المرور المرتفعة أخيراً وقرب المدينة من نهر التايمز الذي يحبس التلوث في هواء المدينة.
المناطق الفقيرة تدفع الثمن الأكبر!
فالمناطق الأكثر فقراً شرق لندن، يوجد بها كثافة سكانية عالية وهذا ما يشكل ضغطاً على النظام البيئي، مقارنةً بالمناطق الأكثر ثراء والأقل كثافة سكانية.
فمنطقة تاور هاملت شرق لندن، التي تصنف ضمن المناطق الأكثر فقراً في العاصمة فإنها تعاني من كثافة سكانية ضخمة تبلغ نحو 16 ألف نسمة لكل كيلومتر مربع.
الكثير من سكانها من أصول عرقية مهاجرة يعيشون ضمن مباني الإسكان الشعبية المكتظة، لكن في المقابل فإن الكثافة السكانية فى منطقة كينجستون أبون تايمز جنوب غرب لندن تبلغ نحو 4500 نسمة لكل كيلومتر مربع، وغالبيتهم من ذوي البشرة البيضاء.
ومن الأسباب الشائعة التي تقف وراء هذا التلوث في المناطق الفقيرة هو قرب بعض الصناعات ومراكز النقل ومواقع التخلص من النفايات منها، كما أن البنية التحتية يلعب دوراً في ذلك حيث نجد في مناطق الفقراء نقص في المساحات الخضراء وسوء في الإدارة السليمة للنفايات فضلاً عن نقص المواصلات الصديقة للبيئة ضمن المناطق الأكثر فقراً.
لا يتوقف الأمر هنا بل إن أنواع المباني تؤثر أيضاً، فالمناطق الأكثر ثراء تنتشر فيها المباني الحديثة حيث تم بناؤها بطريقة تضمن حبس الحرارة خلال أشهر الشتاء، بحيث تقل الحاجة لتشغيل أجهزة التدفئة وهنا تقل الحاجة لاستهلاك الطاقة كل هذا يسهم في تحسين جودة الهواء.
والكثير من مناطق الأغنياء باتت تفضل تركيب ألواح الطاقة الشمسية على خلاف المناطق الأكثر فقراً حيث يلعب الوضع الاقتصادي دوراً أساسيا في ذلك، فتكلفة تركيب ألواح الطاقة الشمسية مازالت أعلى بكثير من قدرة الفقراء على تركيبها في بريطانيا على الرغم من أن أسعارها اجمالاً انخفض في السنوات الأخيرة بنحو 50%.
وتتجه لندن لتطبيق لوائح بيئية أكثر صرامة وتدابير لإنقاذ الصناعات والنقل فى جميع أنحاء العاصمة ضماناً لعدم تركيز الهواء الملوث في الأحياء الفقيرة فقط، حيث تدعم المبادرات التي يقودها المجتمع المدني بصورة منتظمة لزيادة الوعي بالقضايا البيئية وتحقيق عدالة بيئية للجميع.