“هنا لندن، بي بي سي” هي أكثر من جملة اعتاد المستمعون العرب سماعها جيلاً بعد جيل منذ 3 يناير 1938، دون أن تفقد وقعها الخاص في وجداننا، فرغم ما حملته السنوات الأخيرة من تطور تكنولوجي يكاد ينسينا اختراعاً يدعى الراديو، بقيت إذاعة بي بي سي عربية تتربع عرش الإعلام المسموع، ترفد حواسنا الخمس بكلمات تجعلنا نعيش أحداث الخبر دون أن نراها، ونسافر بين الحضارات وثقافات البلدان على متن الحروف، لا زاد لنا سوى رغبة جامحة بنهل المعرفة واستكشاف العالم من حولنا.
يوم الجمعة 27 يناير من عام 2023 لم يكن يوماً عادياً بالنسبة لعشاق هذه الإذاعة، إذ أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية إغلاق قسم إذاعتها الناطق باللغة العربية، على وقع دقات ساعة بيغ بين وبالكلمات نفسها التي أطلقت بها بثّها الأول في 3 يناير 1938: “هنا لندن، هيئة الإذاعة البريطانية”.
شبكة بي بي سي البريطانية عللت قرار الإغلاق بالحاجة لخفض التكاليف وتغطية نفقاتها العالمية والانتقال ببرامج الإذاعة إلى المنصات الرقمية التي باتت تشهد إقبالاً أكبر من مختلف شرائح الجمهور، ولكن ذلك لم يقنع مستمعي الإذاعة الذين اعتادوا سماع الخبر بأصوات فخيمة أصبح بإمكانهم تمييزها بين عشرات الأصوات الإذاعية.
ومن أشهر الإعلاميين الذين ارتبطت أصواتهم لدى المستمعين بأثير إذاعة بي بي سي العربية، أحمد كمال سرور أول مذيع يقرأ نشرة في بي بي سي العربية عام 1938، وحسن الكرمي صاحب برنامج قول على قول الذي استمر بثه ثلاثين عاماً متتالية، وماجد سرحان مقدم البرامج الإخبارية في الإذاعة ما يقرب من ثلاثين عاماً.
ولا يمكن أن ننسى مديحة المدفعي أول مذيعة لنشرة الأخبار في هيئة الإذاعة البريطانية، وأفتيم قريطم مقدم البرامج الرياضية على مدى 45 عاماً إلى جانب العديد من الإعلاميين المخضرمين الذين حفروا أصواتهم في وجدان المستمعين لأجيال متتالية.
اعتادت الإذاعة في بداية عملها على افتتاح بثها بستين دقيقة تحتوي نشرة أخبار، تليها رسائل من قادة مناطق الانتداب العربية، لتنتقل إلى بث مواد متنوعة، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية زادت تلك الفترة إلى ثلاث ساعات، يتم خلالها إذاعة أربع نشرات إخبارية، على أن يستهل البث بآيات من القران الكريم في نهج استمر لعقود طويلة.
لاحقاً، سعت إذاعة بي بي سي لتقليص مساحة المواد الإخبارية السياسية، والتوجه لبث المواد الثقافية، فكان لأدباء اللغة العربية نصيب وافر في برامج الإذاعة بينهم الأديب المصري الراحل طه حسين، وفي بداية التسعينات كان يعمل بالإذاعة ما يقارب الثمانين شخصاً بين مذيع ومنتج وفني وإداري، تحول بعضهم لاحقاً للعمل في تلفزيون بي بي سي الذي تم إطلاقه عام 1994.
وفي عام 2003 افتتحت الإذاعة مكتباً لها في العاصمة المصرية ليكون أول مكتب للخدمة العربية خارج لندن، لحقه مكتب في العاصمة الأردنية عمان عام2019.
إذاعة بي بي سي العربية استحوذت خلال مسيرتها الطويلة على أحداث شكلت جزءاً من ذاكرة المستمعين، إذ وجهت كوب الشرق أم كلثوم عبر أثير الإذاعة كلمة حصرية لعشاق صوتها في مختلف أنحاء العالم، خلال زيارتها للندن عام 1949، كما وجهت جارة القمر فيروز كلمة أثناء زيارتها لندن عام 1961.
وفي إبريل 1951 بثت الإذاعة لقاء مع ملك العراق فيصل الثاني بمناسبة عيد ميلاده السادس عشر حيث كان الملك طالبا في مدرسة هارو ببريطانيا آنذاك، ولقاء مع الأمير فهد بن عبد العزيز، الذي كان يشغل في تلك الفترة منصب وزير الداخلية السعودي.
على مدى 85 عاماً، غطت إذاعة بي بي سي عربية أخبار الحرب العالمية الثانية وأزمة قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وغيرها من الأزمات العربية، ما جعلها تستقطب 40 مليون مستمع يومي.
اليوم، ومع تنامي عصر التكنولوجيا الذي بات يزحف بتأثيراته إلى أدق تفاصيل حياتنا اليومية، تبقى مساحة في الذاكرة لا يمكن لمنصات التواصل الرقمية ملؤها مهما حاولت ذلك، وهو ما يبرر تلهفنا المستمر لالتقاط ما يتسنى لنا من ذكريات، تعود بنا إلى مراحل من حياتنا كان فيها الراديو المنصة الإعلامية شبه الوحيدة التي نستطيع من خلالها الولوج إلى العالم وتفاصيله، لعلنا بذلك نسترجع أياماً لم يعد لها مكان سوى في الذاكرة.