جمّع سكاكين المدينة كلّها وغرزها في قلوبنا في “غمضة عين”.. خالد خليفة رحل عن عالمنا موجهاً إحدى أقسى الضربات للسوريين الذين استطاعوا أو لم يستطيعوا توديعه للمرة الأخيرة.
بقلم: جلنار خطار
أطلق خالد قلبه ليطير في سماء البلاد التي يحبّ وحرّر روحه من قفص الجسد بعد 59 عاماً من الضحك والحزن والحب والعناد, قال إن “الموت عملٌ شاق” وبمنتهى السهولة مات ملتحماً بتراب بلاده إلى الأبد.
من هو خالد خليفة؟
ببساطةٍ رشيقة عرّف عن نفسه دائماً على أنه خالد خليفة السوري أولاً والكاتب والسيناريت لاحقاً, غير أنّه عُرف بالفنان التشكيلي والمصوّر والشاعر كذلك, وبينما يسخر أصدقاؤه من ولعه بالرسم بعد كوفيد -19 يردد عليهم: “أنا ألعب” ومع هذا كان لعبه جميلاً مثله وحزيناً مثلنا جميعاً.
عام 1964 التقط خليفة أول أنفاسه في بلدة مريمين في ريف عفرين، في مدينة حلب وبعد 59 عاماً لفظ آخرها في بدايات خريف 2023 وحيداً مثل شبح على كنبةٍ عتيقة في دمشق, درس القانون “لينهب عائلته في سبيل الكتابة” إذ قرر من بداية حياته الجامعية بأنه لن يعمل بالقانون وبأنه يدرسه للثقافة وليتمكن من الحصول على مصروفه.
غير أنه لو ما زالت الفرصة أمامنا لنسأل خالد لأجابنا: “نادوني خالي” وهكذا كان فعلاً, الخال السوري الجميل والمربي غير المثالي الذي نحتاجه جميعاً في حياتنا لنقدر على عيش لحظاتنا الحقيقية ولو كانت في أقصى الشمال عن المثالية, ولطالما استطاع خالد أن يلعب هذا الدور لا لشيءٍ غير لكونه جزءٌ من حقيقته, إذ يغمر أرواح من حوله بالحب والأمان والرعاية بينما يرفع قدحه عالياً ويصيح : “كأسكم”
من “قوس قزح” إلى “مديح الكراهية”
لو أخذنا نظرة أقرب على أعمال الخال, لما استطعنا تجاوز إحداها دون ابتلاعنا بغصةٍ من نوعٍ ما, تارةً على حلب وتارةً على الحب وغصاتٍ لا تعد على البلاد التي أحب.
هكذا إذاً ترك الخال بصمته على كل السوريين فمن لم يقرأ “مديح الكراهية” ولا “الموت عمل شاق” حتماً شاهد أو سمع بمسلسلات “قوس قزح” و”سيرة آل الجلالي” أو “العراب”.
أكّد مراراً بأنه لو رحل عن سورية سيموت, وبأنه يبقى فيها لأنه يريد “أخذ حصته من العار”, وبطريقةٍ ما أمّن الخال على بقائه خالداً وحياً في ذكرياتنا وغصّاتنا وضحكاتنا.
بامتنانٍ للحياة شكر الحياة مرةً لأنها سمحت لقيامه بما يحب –الكتابة- أن يطعمه خبزاً, أحبّ الجوائز وحصد الكثير منها, ابتسم عند استلامه لجائزة نجيب محفوظ الرفيعة وانتظر بلهفةٍ نوبل, كانت الجوائز إذاً طبطبةٌ على كتف خالد وشكرٌ ضمني لأنه لم يستسلم أو على الأقل هكذا كان يراها.
قٌرأت روايته “الموت عمل شاق” ب 17 لغة, وبكلمات خالد “هذا العمل محظوظ (…) 17 عشر لغة تعني 17 عشر حياة أخرى للكتاب(…) كل لغة وكل ثقافة تتلقى هذا الكتاب بطريقتها وبالتالي هذا الكتاب قد يعيش مع هذه الثقافة أو ترفضه أو تقبله”
منسيٌ وحر
شكّلت حالة خالدٍ حالةً استثنائيةً بالنسبة للرقابة السورية, لم يجادل بما يكفي لأن يوضع بالسجن ولم يسكت بما يكفي لألا يؤثر على الموقف السوري وخاصة الموقف الشبابي والثقافي, إذ كره الاستبداد والسلطة بوضوحٍ دامغ وأحب الحرية والعدالة أكثر من أي شيء, وهكذا إذاً كرهته السلطات الرسمية, غير أنها اكتفت بمحاولة تعتيمه ودفن صوته, عن طريق منع كتبه من جهة وتجاهله في حياته وموته من جهة أخرى, فموت خالد الذي هز السوريين وعامود الثقافة العربي لم يكن كافياً ليعلن على شريط الأخبار الرسمي.
ومع هذا فإن لخالد رأياً مختلفاً فهو لا يفكر في الرقابة عندما كتب ولا بالقارئ حتى, “أفكر بما أكتبه فحسب”.. فلا يعنيه كون كتبه ممنوعة لإيمانه بأن للكتب أجنحةٌ وستطير إلى قراءها أينما كانوا.
شكى الخال من الوحدة في آخر سنواته, حاله حال رفاقه الذين صار أًصعب عليهم اللقى, ومع أنه مات وحيداً إلّا أن محبّيه توافدوا لتوديعه في موقفٍ نادر التكرار, غنوّا له مثلما يحب, وصفقوا, أحوا الأمسيات الغنائية والشعرية وأعادوا قراءة كلماته, رفعوا كؤوسهم عالياً في نخب موته السهل, وبكوا أكثر مما تمنّى.