منذ أن ركلت هذه الكرة لأول مرة من مهدها في برد إنجلترا، مر عليها المئات من الأساليب والمناهج. أحب الإنجليز من بدايتهم مع هذه اللعبة أسلوب الكرة السهلة والمباشرة مع الكرات الطويلة من الحارس باتجاه ملعب الخصم، وحافظ الإنجليز على هذا الأسلوب النمطي إلى أول التسعينيات حتى وصل السير أليكس فيرغسون Sir Alex Ferguson وكتب بداية تلك الحقبة التي انتهت بتاريخ 2013 مع الكثير من الألقاب والإنجازات العظيمة.
مع بداية الألفية الثانية للميلاد، وصل عدة مدربين غيروا الدوري الإنجليزي للأبد وجعلوا من تواريخ وصولهم نقطة علامة وفارقة بين التاريخ الحديث والقديم له، مثل آرسين فينغر Arsen venger صاحب الإرث العظيم مع أحمر لندن، الآرسنال. وعلى الجانب الآخر من العاصمة الإنجليزية أيضاً، كان وصول جوزيه مورينينو إلى تشيلسي لحظة تاريخية أخرى أضافت بعداً آخراً من التنافس التكتيكي بين عمالقة الدوري، وجعلت منه منذ ذلك الوقت الدوري الأعلى تنافسية بين دوريات آوروبا حتى هذه اللحظة.
وباختلاف الآساليب على مر التاريخ بين مهد كرة القدم “الدوري الإنجليزي” والدوريات الأخرى مثل الدوري الإيطالي، الإسباني، الألماني، والدوريات الأخرى الأقل شعبية في العالم، اتفق مدربو اللعبة في كل هذه الدوريات على أن يكونوا من مدرستين مختلفتين لا مدرسة ثالثة بينهما. المدرسة التي تضم المدربين الذين يفضلون اللاعب المهاري في فرقهم ويعطونه الحرية المطلقة، والمدرسة التي تضم المدربين الذين يفضلون أن يحدوا من استخدام اللاعب لمهاراته الفردية وخروجه عن النص، لما يفيد الفريق ككل.
اللاعب المهاري في العصر الجديد: بين سيل الذكريات وأفكار المدربين!
ارتبطت ذاكرة مشجعي هذه اللعبة بالعديد من اللاعبين المهاريين الذين حولوا هذه القدرة على إمتاع الجمهور إلى علامة تجارية، تفضل العديد من إدارات الأندية حتى الان شراء هذه العلامة التجارية وتثبيتها في فرقها لإيمانها الكبير بأنها أفصل طريقة لارتفاع أسهم النادي.
لكن رغم اقتناع الكثير من إدارات هذه الأندية بأن مهارة اللاعب العالية أو اللاعب المهاري بشكل عام سيرفع من أسهم النادي والفريق، قد يظهر مدرب نفس الفريق ويفسد الحفلة على الإدارة ويقرر أن المهارة الفردية الاستعراضية قد تجدي نفعاً بالأمور التسويقية، لكنها حتماً لن تجدي نفعاً ضمن خططه التي تعتمد على “الجماعية”، وهناك الكثير من الأمثلة للاعبين مهاريين جلسوا على دكة البدلاء لأوقات طويلة مع فرقهم الجديدة لسبب وحيد، وهو أن المدرب لا يفضل اللاعب المهاري الذي يعتمد على حدسه ويفضل أن يقصي هذه المهارة الفردية للاعب ويعوضها بالانضباط المقولب لما يفيد المنظومة.
أكثر المدربين الذين أرادوا سابقاً ويريدون حالياً قولبة أو تطويع مهارة اللاعب الفردية وخاصة “المهاجم”، هم المدربين الذين يتبنون أسلوب اللعب التموضعي بتدريب كرة القدم، لكن لفهم السبب الذي دفع هؤلاء الرجال لترويض مهارات مهاجميهم يجب أولاً فهم ماهية “أسلوب اللعب التموضعي” وما سبب ارتباطه بالمدربين الذين يفضلون النظام دائماً، ويؤمنون بأدق التفاصيل.
في كرة القدم الحديثة، يعد أسلوب اللعب التموضعي أحد أكثر الأساليب تطوراً وتعقيداً في هذه اللعبة، حيث يعتمد على فهم دقيق للمساحات وحركة اللاعبين داخل المستطيل الأخضر. الفكرة الأساسية هنا ليست مجرد الاحتفاظ بالكرة، بل السيطرة على الفراغات وتوجيه اللعب من خلال تمركز ذكي يربك الخصم ويخلق فرصاً هجومية. أشهر الفرق التي تبنت هذا النهج سابقاً هي برشلونة سابقاً مع بيب غوارديولا Pep Guardiola، وتعد هذه الفترة لبرشلونة هي ذروة نجاح اللعب التموضعي والفترة التي عرف فيها جمهور كرة القدم الفترة الأفضل من هذا الأسلوب والأكثر إنتاجية أيضاً. ويعتمد هذا الأسلوب على تمريرات قصيرة مكررة مع تبادل للمراكز بين اللاعبين، وبناء الهجمات من العمق، مع الانتشار السليم والمنظم بكل الخطوط.
وبالإضافة لبيب غوارديولا حالياً، يبدع ميكيل آرتيتا Mikel Artita، مساعد بيب غوارديولا السابق في مانشستر سيتي والمدرب الحالي للآرسنال، بتطبيق هذا الأسلوب منذ وصوله إلى شمال لندن عام 2019 حتى هذه اللحظة، ونجح بأن يغرس مبادئ هذا الأسلوب وأسسه بفريقه ليكون واحد من أفضل الفرق حالياً باعتماد هذا النهج.
قبل بيب غوارديولا وميكيل آرتيتا ولويس إنريكي وغيرهم من عشاق هذا النهج، كانت البداية مع يوهان كرويف Johan Cruyff مع فريق برشلونة نسخة التسعينات، الذي هو بالأصل امتداد لنهج الأب الروحي لهذا الأسلوب، الإنجليزي رينوس ميتشيلز Rinus Michels، الذي درب برشلونة سبعينيات القرن الماضي، وكان يوهان كرويف هو المهاجم الذي شكل حجر الأساس لأسلوب رينوس ميتشيلز الذي بدأه في أياكس أمستردام ونقله مع إلى برشلونة، رفقة مهاجمه المفضل، الأسطورة يوهان كرويف.
اقرأ أيضاً: رسالة من ريال مدريد إلى برشلونة بعد الخسارة في نهائي كأس الملك 2025
اللعب التموضعي هو جزء من أسلوب الكرة الشاملة، الذي يعتمد بشكل أساسي على حرية الحركة وتبديل المركز والضغط ككتلة واحدة وبعدها العودة للدفاع ككتلة واحدة أيضاً. تطويع قدرات اللاعب المهاري لخدمة هذا النظام تعد واحدة من أهم الأسس التي يعتمد عليها المدرب الذي يؤمن بنهج أسلوب اللعب التموضعي. بيب غوارديولا نجح بفعلها سابقاً مع تيري هنري Terry Henry بعد وصوله لبرشلونة وخلق منه ركيزة أساسية كجناح أيسر عصري تم تطويع مهارته الفردية وقدراته الفنية لخدمة النظام ككل، وبالفعل كان هنري واحداً من أهم أجزاء ذلك الفريق وأساس من أسس نجاح برشلونة 2009.
كمثال آخر، لويس إنريكي Luis Enrique وقصته الجميلة مع نيمار جونيور، فبترويض مهارة نيمار جونيور بأفضل فترات مسيرته، نجح إنريكي بخدمة تلك المنظومة التي نجحت في النهاية بجلب الثلاثية الثانية بتاريخ برشلونة في موسم 2014-2015 وأن يكون نيمار جونيور واحد من أبرز لاعبي برشلونة تاريخياً وأفضلهم رغم رحلته التي امتدت لأربع مواسم فقط.
العراب مارسيلو بييلسا Marcelo Bielsa مع ليدز يونايتد Leeds United سابقاً نجح بأن يجعل من لاعب برشلونة الحالي، رافينيا دياز، واحداً من أفضل الأجنحة بالعالم وبالبريميرليغ في فترة من الفترات، وهو من جعل رافينيا ماهو عليه حالياً.
كارلو أنشيلوتي بفترته الحالية مع ريال مدريد، نجح بأن يستخرج أفضل نسخة ممكنة من البرازيلي فينيسيوس جونيور، وهو واحد من أمهر الأجنحة الموجودين على الساحة حالياً. تمكن أنشيلوتي بأسلوب منتج بأن يعطي البرازيلي هامش كبير كي يخرج كل مالديه وبحرية كاملة لكن ضمن قالب معين، هذا القالب هو الأفكار والأوامر التي يمليها نظام كارلو أنشيلوتي التدريبي والذي يتسم من عشرات السنين، بالمرونة التكتيكية.
في زمن كرة القدم الحديثة، حيث تحكم التكتيكات المعقدة والبيانات الإحصائية سير المباريات، يبقى اللاعب المهاري هو الشعلة التي تُضيء قلوب الجمهور. رغم كل التحليلات والأنظمة الدفاعية المحكمة، تظهر اللمسة السحرية، المراوغة الجريئة، أو التسديدة المفاجئة هي اللحظات التي تُوقف الأنفاس وتُذكّرنا بأن الفن لا يزال حياً في هذه الرياضة. الجمهور يتوق إلى الإثارة والجمال، وهذا ما يقدمه اللاعب الموهوب، مهما بلغت تعقيدات التكتيك. فهو ليس مجرد رقم في خطة، في النهاية.