بعد موجات الهجرة القسرية التي أعقبت سنوات الحرب التي عاشتها سوريا، ارتفعت أعداد السوريين في بريطانيا بشكلٍ ملحوظ واستطاعوا النجاح والتميز في مجالات كثيرة وانتشرت محالهم على نطاق واسع في مختلف أرجاء المملكة المتحدة.
لكن يكاد يكون من النادر جداً أن تجد سورياً سواء من الجيل القديم أو الجديد قد زار أو سمع عن وجود متحف “ليتون هاوس” في منطقة “كنسينغتون” الشهيرة بالرغم من قربها من حي “شبرد بوش” ذي الطابع السوري الخاص، حيث يحتوي هذا المتحف بداخله على قاعة فخمة شيدت على الطراز المعماري الدمشقي الفريد.
يعتبر متحف “ليتون هاوس” واحداً من أكثر المتاحف المنزلية جاذبية في مدينة لندن، لكونه عبارة عن مزيج حضاري يجمع بشكل متناغم بين مجموعة من الأعمال واللوحات الفنية الكلاسيكية الغربية التي كانت سائدة في العصر الفيكتوري من جهة، وبين مجموعة تصاميم استثنائية من البلاط والأرضيات والجدران والأعمدة والنقوشات التي تشهد على عظمة فن العمارة الإسلامية في العصر الأموي من جهة أخرى.
تحفة فنية تنقلك من عاصمة الضباب إلى عاصمة التاريخ
حين يدخل الزائر إلى المتحف يجد نفسه منجذباً إلى القاعة العربية – الدمشقية، وهي قاعة استقبال فخمة تضم بين جنباتها جدران قرميدية مزخرفة على الطريقة الإسلامية تشبه لحد ما الزخارف الموجودة في الجامع الأموي، ومزينة بألوان مكتوب عليها آيات قرآنية وبعض العبارات بالخط العربي الكوفي، وتحتوي كذلك على بعض القطع من الموزاييك الدمشقي التي صنعت بدقة وحرفية عالية، وسقف ذهبي مقبب يسحر الناظرين إليه يتدلى منه ثريا متلألئة، على جانبه شرفة خشبية في الطابق العلوي تحاكي نظيراتها في حارات الشام القديمة.
تتألف أرضية القاعة من الرخام والبلاط واللوحات الفسيفسائية التي صنعت وجلبت خصيصاً من دمشق، ينتصب عليها أعمدة منحوتة مرصعة بتيجان وفي وسطها نافورة مياه رخامية سوداء، كما توجد في بداية المدخل خزانة عرض تضم مجموعة من الفخار والأواني الزجاجية المُعشقة التي تشتهر بها بلاد الشام.
المدينة التي أتعبت قلب زائرها
اللورد فريدريك لايتون فنان بريطاني من أشهر رسامي ونحاتي العصر الفيكتوري في القرن التاسع عشر، رأس الأكاديمية الملكية البريطانية للفنون لقرابة 18 عاماً، كان شغوفاً بالسفر منذ سن مبكرة وبعدما قضى فترات طويلة من حياته متنقلاً بين عدة دول أوروبية وبعض دول شمال أفريقيا، سافر إلى سوريا عام 1873 وأقام في منزل صديقه المطل على جبل قاسيون وهو المستكشف والدبلوماسي ريتشارد بورتون الذي كان يشغل منصب القنصل البريطاني في دمشق زمن الخلافة العثمانية.
تجول لايتون بين أزقة وحارات مدينة الياسمين العتيقة وطاف على أبوابها وأسوارها التي تشهد على عراقة حضارتها، وتمشى في أسواقها القديمة وزار قصورها وقلاعها التاريخية، وأحب جغرافية المدينة ودفء أهلها “حيث صور ذلك في بعض لوحاته وأعماله الفنية الموجودة في متحفه” ،كما أُعجب بالصناعات الحرفية- اليدوية والتقليدية التي تشتهر بها دمشق عبر العصور من حيث الجودة والجمال والإتقان، حينذاك قرر لايتون خلق جو دمشقي مماثل في منزله بمدينة لندن مستوحى من الأجواء الروحانية التي شعر بها أثناء زيارته، ومستمد من إلهام الهندسة العمرانية البديعة لأبنية دمشق التي أسرت قلبه واستحوذت على مخيلته.
وبغية تحقيق مُرادهِ ساعدهُ صديقه بورتون بالتعاون مع موظفي القنصلية في عمليات الشراء والنقل لكل ما يحتاجه من أثاث ومواد رخامية وخشبية وقطع زخرفية وأرضيات فسيفسائية استخدمت في بناء القاعة بعد شحنها بالبواخر إلى بريطانيا.
إحياء التراث والتمسك به
أضحت المهن اليدوية التي تكتسب سوريا سمعة عريقة عربياً وحتى عالمياً مهددة بالاندثار بفعل الظروف القاسية التي نتجت عن الحرب، حيث دُمرت بعض الأسواق التاريخية التي تعد مركزاً مهماً للصناعات الحرفية، كما هاجر عدد كبير من “شيوخ الكار” وأغلقوا ورشاتهم بسبب الظروف الأمنية والمعيشية الصعبة، إضافة إلى الشلل الذي أصيب به القطاع السياحي في سوريا والذي كان يعتبر مصدراً مهماً لكسب الرزق بالنسبة لهم.
لكن ما يبعث على التفاؤل هو وجود جيل جديد من الحرفيين السوريين متمسك بهويته الوطنية رغم كل الصعوبات، ورث المهنة عن آبائه وأجداده ويسعى للحفاظ على إرثها وطابعها الحضاري المميز في دمشق وعموم سوريا.
إذ استعانت إدارة متحف “لايتون هوس” بفريق من الحرفيين السوريين اللاجئين يعملون في مؤسسة “الجبل الفيروزي” فرع الأردن، لتنفيذ تصاميم أثاث جديدة وأعمال ديكور باستخدام الموزاييك والفسيفساء والزخارف، خلال أعمال ترميم وتوسيع وتطوير شهدها المتحف.
وأسهم في إنجاز العمل كل من ماهر درويش وهو نجار رئيسي في الفريق، وإبراهيم خدوج المختص في ترصيع الفسيفساء، ومحمد علي الذي تولى أعمال الدهان والتشطيبات النهائية، وساعدهم فريق عمل كبير من المتدربين السوريين، وقدمت لهم إدارة المتحف أسمى عبارات الشكر والعرفان والتقدير كتبت على إحدى جدران القاعة لِما بذلوه من مجهودٍ وحرفية وتفانٍ في العمل.
توفر زيارة المتحف تجربة استثنائية وشيقة تحمل في طياتها لحظات عاطفية لمن يرغب باسترجاع ذكريات جميلة عاشها في سوريا بشكل عام وفي دمشق بشكل خاص، لاسيما لمن أرهقته سنوات طويلة من البعد والغربة واللجوء.