وسط مشهد سياسي عالمي مضطرب، تتشابك فيه المصالح وتتداخل الأجندات، تجد بريطانيا نفسها أمام مفترق طرق جديد في علاقتها مع الصين، فبعد سنوات من التراجع والانكماش تحت ظل الحكومات المحافظة، يسعى حزب العمال إلى إعادة رسم ملامح السياسة الخارجية البريطانية، لكن حين يتعلق الأمر بالصين، القوة الاقتصادية العملاقة على مستوى العالم، يبدو التقدم أشبه بالمناورة على حافة شفرة حادة فهل تستطيع حكومة العمال تحقيق التوازن بين تحدي الصين، ومنافستها، والتعاون معها دون عواقب كبرى؟
أعلن حزب العمال بعد الانتخابات أن «بريطانيا عادت» إلى الساحة الدولية بعد سنوات من التراجع تحت حكم المحافظين، ولكن فيما يتعلق بالصين، تتحرك الحكومة بخطوات حذرة وغير واثقة، فزيارة وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، للصين تُعد نادرة، إذ يعد ثاني وزير خارجية يزور البلاد خلال ست سنوات.
أجرى لامي محادثات مع نظيره الصيني القوي، وانغ يي (Wang Yi)، برفقة نائب رئيس الوزراء دينغ شويشيانغ (Ding Xuexiang) في بكين، قبل التوجه إلى شنغهاي للقاء قادة الأعمال البريطانيين.
يتوقع البعض أن وزارة الخارجية ستعطي أهمية كبيرة لهذه الزيارة، خاصة وأنها تمثل محاولة لإصلاح العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ومع ذلك، يبدو أن الزيارة تجري بهدوء وبعيداً عن الأنظار، فهناك قلة في التغطية الإعلامية لزيارة لامي، كما لم تصدر إعلانات حول اتفاقيات تجارية جديدة أو تعاون سياسي.
وفيما يبدو، تعود قلة تسليط الضوء على الزيارة جزئياً إلى المخاوف المتزايدة داخل الحكومة البريطانية، حيث تسعى إدارة رئيس الوزراء إلى تجنب أي خلافات سياسية قد تنشأ قبل الإعلان عن الميزانية في وقت لاحق من هذا الشهر، فلا ترغب الحكومة في أن يتحد نواب حزب العمال والمحافظين في اتهامها بتفضيل المكاسب الاقتصادية على حساب حقوق الإنسان والقانون الدولي.
اقرأ أيضاً: مليونيرات العالم تتجه نحو الصين
ومن المفيد هنا توضيح أنه لا يزال سبعة نواب من البرلمان وأعضاء مجلس اللوردات خاضعين للعقوبات الرسمية من قبل بكين، وقد بدأت بالفعل هذه مجموعة برلمانية متعددة الأحزاب في اتهام لامي بالتراجع عن وعوده قبل الانتخابات بشأن دفع المحاكم الدولية لإعلان معاملة الصين لأقلية الإيغور على أنها إبادة جماعية.
من أبرز الأسباب التي تجعل زيارة لامي تتسم بالهدوء أن حزب العمال لا يزال في طور صياغة سياسته تجاه الصين، فالحزب يُجري ما يُعرف بتدقيق شامل عبر إدارات الدولة لعلاقة بريطانيا مع الصين، ومن المتوقع أن تنتهي هذه العملية في العام القادم 2025، وعندها قد تزور وزيرة المالية، راتشيل ريفز (Rachel Reeves)، أو حتى رئيس الوزراء، كير ستارمر (Keir Starmer)، الصين.
وفي الوقت الحالي، تعتمد الحكومة موقفاً يتمحور حول ثلاث قضايا: «التحدي، المنافسة، والتعاون»، حيث تؤكد أنها ستتحدى الصين بشأن انتهاكات حقوق الإنسان ودعمها لروسيا في أوكرانيا، وستنافس الصين في مجالات التجارة، وستتعاون معها في المصالح المشتركة مثل الصحة العالمية والتغير المناخي.
وكان قد تحدث مدير جهاز المخابرات البريطاني (MI5)، كين مكالوم (Ken McCallum)، الأسبوع الماضي عن «تهديد واسع النطاق» تمثله الصين، حيث تستهدف معلومات بريطانيا وديمقراطيتها، لكن هدف لامي الأكثر تواضعاً في هذه الزيارة هو إعادة بناء علاقة عملية مع بكين وفق ما تتحدث التقارير المرتبطة بالأمر.
وتراوحت علاقات المملكة المتحدة مع الصين بين دفء دبلوماسي أيام ما يسمى بالـ «العصر الذهبي»، وعدوانية متزايدة في السنوات الأخيرة، ففي العام الماضي، وصف رئيس الوزراء آنذاك، ريشي سوناك (Rishi Sunak)، الصين بأنها «أكبر تهديد» للاقتصاد البريطاني، فيما دعا وزير الخارجية السابق، جيمس كليفرلي (James Cleverly)، لإعادة التواصل مع الصين، في حين تجاهل خلفه، اللورد كاميرون (Lord Cameron)، الصين بشكل كامل.
بينما لامي، فيسعى إلى إعادة تأسيس ما وصفه بعلاقة «أكثر اتساقاً وواقعية» مع بكين، وخلال محادثاته مع وانغ، أبدى إعجابه بفرص التعاون المشترك في مجالات مثل المناخ والطاقة والطبيعة، بالإضافة إلى العلوم والتكنولوجيا والتجارة والاستثمار والصحة والتنمية.
من جانبه، أكد وانغ يي أن العلاقات الصينية البريطانية تقف عند «نقطة بداية جديدة»، وأعرب عن ثقته في تعزيز التعاون الثنائي، كما أشاد بشعار السياسة الخارجية لوزير الخارجية البريطاني، وهو «الواقعية التقدمية» (Progressive Realism)، واصفاً إياه بأنه ذو «أهمية إيجابية».
اقرأ أيضاً: بريطانيا العمالية تعفي الصين جمركياً!
وأكد لامي أن هناك اختلافات في وجهات النظر بين البلدين حول بعض القضايا، فبعد المحادثات، أصدرت وزارة الخارجية البريطانية بياناً قالت فيه إن لامي أعرب عن مخاوفه بشأن الدعم العسكري الصيني لروسيا في أوكرانيا وتأثيره السلبي على علاقات الصين بأوروبا.
وتناولت المحادثات معاملة الصين لأقلية الإيغور في منطقة شينجيانغ (Xinjiang)، وأبدى لامي «مخاوف جدية» بشأن تطبيق قوانين الأمن القومي الجديدة في هونغ كونغ (Hong Kong)، وطالب بالإفراج عن رجل الأعمال البريطاني جيمي لاي (Jimmy Lai)، المحتجز هناك بشكل تعسفي.
ومع ذلك، أكدت وزارة الخارجية أن الاجتماع كان «بناءً على جميع المستويات» وأن الطرفين اتفقا على «استمرار المناقشات بانتظام» على مستوى الوزراء.
ختاماً، فإن هذه الزيارة تهدف إلى إعادة بناء العلاقات مع الحكومة الصينية، والأولوية الحالية للحكومة البريطانية هي النمو الاقتصادي، وهذا يصعب تحقيقه دون علاقة عملية مع رابع أكبر شريك تجاري لها، ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح أين ستضع حكومة حزب العمال حدودها بين التحدي، المنافسة، والتعاون مع الصين.
اقرأ أيضاً: أول هبوط كبير ومفاجئ للتضخم في بريطانيا منذ 2021!