بضعة أمتار فقط اختزلت بلاداً بأكملها، شارع واحد فصل بين البرامكة وأبو رمانة، بين الفقر والغنى، الجوع والشبع، الجنة والنار؛ تماماً في قلب العاصمة دمشق.
قد يكون جسر الرئيس الذي يتوسط العاصمة السورية المعلم الأشهر لأبنائها على مختلف طبقاتهم الاجتماعية، ليس بوصفه أحد معالم المدينة المنهكة؛ بل بكونه جُرح السوريين النازف الذي آلمهم كلما لمسوه.
يعرف رواد هذا الجسر أنه كما مدنهم وبلادهم؛ يشبههم. يكرهونه لأنه يذكرهم بأنهم أكثر فقراً وأقل قوة من هؤلاء السوريين على الطرف الآخر من الجسر، فيصبحون أقل صحة وأكثر غضباً.
جغرافياً، الجسر الذي أنشئ في العام 1992 يعد نقطة وصل بين منطقتي البرامكة وأبو رمانة. يقطع الشارع الخارج من ساحة الأمويين باتجاه جسر فكتوريا في شارع الثورة، ويعتليه فندق فور سيزون وقصر الضيافة ومبنى جامعة دمشق. ويطل مباشرة على مجرى نهر بردى.
أما اجتماعياً، فهذا الجسر يجسد خيطاً حاداً يفصل الطبقة الغنية عن الفقيرة في سوريا.
مشكلة قديمة جديدة
قبل عام 2011 كان يتميز المجتمع السوري بطبقته الوسطى هذه الطبقة الإجتماعية التي شكلت أغلبية المجتمع وكانت تتمتع بالرخاء الأمر الذي انعكس إيجاباً على بنية المجتمع، لكن مع مطلع 2012 بدأت هذه الطبقة بالضمور على حساب توزيع طبقي مجتمعي أدى لازدياد الطبقة الغنية وفي الاتجاه المعاكس ايضا الطبقة الفقيرة أو ربما شديدة الفقر.
ومما لاشك فيه أن هذا التوزيع الطارئ لطبقات المجتمع السوري كان له العديد من الأسباب أهمها النزوح الداخلي ففيما يقارب الخمسة ملايين سوري نزحو عن مسكنهم وأعمالهم، كذلك السياسات الحكومية (الاقتصادية – الإجتماعية) المتبعة غذت هذا الأمر فخلال ثمانية سنوات من الحرب تعاقب على المجتمع السوري خمسة حكومات وشهدت كل حكومة تعديلا او أكثر في حقائبها الإقتصادية والإجتماعية إلا انها كلها لم تنجح في إتباع سياسات إقتصادية إجتماعية تجنب المجتمع السوري الاثار الوحشية للحرب المفروضة عليه.
وربما مازاد هذه المشكلة تفاقماً العقوبات الإقتصادية العربية والغربية التي فرضت على الدولة السورية وتأثر فيها المجتمع السوري بشكل مباشر، وكذلك تحكم فئة قليلة من التجار في السوق فيما يسمى السوق السوداء زادت الأمور تعقيداً. كل هذه العوامل أدت لازدياد الطبقيتين الغنية والمعدمة على حساب الطبقة الوسطى.
90% تحت خط الفقر
قبل عام 2011، كانت سوريا بين الدول منخفضة الدخل، وبلغ إجمالي الناتج المحلي بالنسبة للفرد عام 2010 ما يقدر بـ2806 دولارات، تبعاً لتقديرات صندوق النقد الدولي. وكان هذا المستوى معادلاً لنظيره في سريلانكا، ويقل قليلاً فقط عما هو عليه في المغرب ومصر. اليوم، يعيش قرابة 90% من المقيمين داخل سوريا تحت خط الفقر، في وقت تتفشى مشكلة الجوع يوماً بعد آخر.
وبحسب تقرير صدر عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، تواجه سوريا، بالإضافة إلى 19 دولة أخرى، مخاطر انعدام الأمن الغذائي في العام الحالي، ما يوضح بشكل أعمق سوء الوضع المعيشي، وقسوته على المواطن السوري الذي يستيقظ يوميًا على ارتفاع جديد في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، وارتفاع في أسعار السلع والمواد الغذائية التي يواجه صعوبة في تأمينها، بدءًا برغيف الخبز، في حين يتجاوز أقاربه أو أصدقاؤه المقيمون خارج سوريا هذه التفاصيل.
التشتت وانعكاساته “الإيجابية”!
بحسب دراسة صادرة عن مؤسسة “فريدريش إيبرت” في أيلول 2019، فقد أدى التشتت الذي عاشه السوريون خلال سنوات الثورة إلى تحسين الظروف المعيشية لكثير من العائلات.
وشكّل الآباء خلال السنوات الأولى من عمر الثورة مركز القوة الاقتصادية لعائلاتهم، إذ كان لديهم أعمالهم الأكثر استقراراً بحكم الأقدمية، بخلاف جيل الأبناء، الأحدث نسبيًا في سوق العمل. ووفقاً للدراسة، فقد كان الآباء هم المتحكمين بممتلكات العائلة ومواردها، ما منحهم القدرة على ممارسة دورهم الاقتصادي بشكل فاعل خلال السنوات الأولى للحرب السورية، ثم انتقلت الأعباء المادية بعد ذلك إلى جيل الأبناء، الذي أثبت قدرة أكبر على التأقلم مع المتغيرات في سوق العمل، إذ استطاع كثير من الأبناء بعد عام 2011 تغيير مهنهم، بخلاف الآباء الذين أبدوا مرونة أقل حيال ذلك.
ومع خسارة كثير من العائلات ممتلكاتها جراء العمليات العسكرية، حظي الأبناء بالدور الاقتصادي في الأسرة، مع محافظة الآباء على الدور الاجتماعي الرابط بين أفراد الأسرة.
الحوالات المالية مصدر دخل الغالبية العظمى
اليوم ما يحكم طبيعة العلاقة الاقتصادية والاجتماعية بين السوريين الموزعين في داخل البلاد وخارجها، هو عمق الروابط والصلات العائلية أو الاجتماعية، إذ دعم السوريون المغتربون السوريين الذين بقوا في سوريا، وزوّدوهم بالمال، ما حقق دورًا وظيفيًا بتحسين الوتيرة الاقتصادية.
يعتمد جزء كبير من السوريين الموجودين في سورية على مساعدات أقربائهم ومعارفهم في الخارج؛ حيث يتم تحويل مبالغ شهرية أو شِبه شهرية صغيرة تتراوح بين 125 و150 دولاراً بالمتوسط. يُقدَّر عدد المستفيدين من هذه التحويلات بأكثر من 5 ملايين نسمة متوزّعين على مختلف مناطق البلاد وبمبالغ شهرية تُقدَّر بـين 125 و150 مليون دولار شهرياً.