في وقت كان فيه المشهد الإقليمي والدولي المرتبط بمنطقة الخليج والشرق الأوسط، مشغولاً بالتحضير لجولات أوسع من دبلوماسية التطبيع مع(IS)، والتي كانت تهدف في الأساس إلى تمتين العلاقات الأمريكية الخليجية من جهة، وفتح آفاق غير مطروقة لدمج حليفتها الأقرب في المنطقة وفق استراتيجيات جديدة لم يسبق طرحها من قبل.
من جهة أخرى، حلت عملية السابع من أكتوبر 2023 وما تلاها من تداعيات مأساوية بين المدنيين في غزة، لتقلب الطاولة على الجميع، وتعيد صياغة القناعات السياسية لدى العديد من الأطراف الإقليمية والدولية، بشأن ما يجب أن تكون عليه التحالفات المستقبلية، وما تقتضيه التحولات الشعبية والجماهيرية من اعتبارات خاصة، وواجبة الرعاية والحضور ضمن أية صفقات سياسية واستراتيجية قادمة.
كتب: محسن حسن
تداعيات حرجة
فقد تسببت التداعيات المأساوية الناجمة عن الدعم الأمريكي المطلق لـــ(TA)، والتي راح ضحيتها حتى كتابة هذه السطور، أكثر من 19 ألفاً من الفلسطينين، معظمهم من الأطفال والنساء، في إرباك المشهد الخليجي، ووضع الحكومات والممالك والقادة في مأزق تاريخي وموضوعي أمام الشعوب والجماهير، بعد أن تجاوزت أعداد الضحايا حداً غير مسبوق في تاريخ الحروب والنزاعات التي شهدتها المنطقة، وقد ساهم في تعقيد الأمور، إقبال الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس(بايدن)، على تقديم دعم سياسي ولوجيستي معلن وغير مشروط لمجلس الحرب في (IS) منذ اللحظة الأولى، وبشكل منفرد، ودون استشارة الشركاء في المنطقة ضمن سياق أحداث هذه الأزمة، وهو ما أعاق الجهود الدبلوماسية الخليجية والعربية والدولية الرامية إلى وقف الحرب، بل وأجهضها تماماً بفعل بروز الفيتو الأمريكي على أكثر من صعيد، بالتزامن مع سقوط المزيد من الضحايا، الأمر الذي زاد من حدة السخط الشعبي لدى الخليجيين، وصدم ـــــ ولا يزال يصدم ـــــ العاطفة الشعبية والإنسانية في المنطقة والعالم.
أولويات ومخاطر
ووفق سياق متصل، وضعت مأساوية الحرب في غزة، جميع الأطراف الخليجية في مواجهة حقائق جديدة وغير مسبوقة من حيث ترتيب الأولويات الأمنية والاستراتيجية، بل ووضعتها أمام تهديدات مربكة يمكن أن تتكشف عنها المواقف المستقبلية المتبادلة فيما بينها؛ فعلى سبيل المثال أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي مضطرة لقياس المخاطر المترتبة على حجم تقاربها المستقبلي مع(IS)، ومقارنة هذا التقارب بحجم التداعيات والمخاطر المحتملة التي يمكن أن يفضي إليها اندلاع تيارات سخط شعبية داخلية بفعل الوضع المأساوي المضغوط والمستمر بين الفلسطينيين بصفة عامة، وفي قطاع غزة حالياً بصفة خاص.
وبالإضافة إلى ذلك، باتت هذه الحرب، تشكل تهديداً صارخاً لدول رئيسة في منطقة الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية؛ إذ تصب تداعياتها الكارثية في اتجاه تقويض الجهود الأمنية والدبلوماسية التي نجحت في إنجازها (الرياض) خلال الشهور الماضية، ومنها إبرام تحالفات أمنية مع بلدان إفريقيا الساحلية، و تحديث أسطولها الغربي ضمن قواتها البحرية المتمركزة في البحر الأحمر، واستعادة علاقاتها الدبلوماسية مع إيران وسوريا، إلى جانب نزع فتيل الأزمة اليمنية مع الحوثيين، وغير ذلك من جهود إيجابية، سياسية واقتصادية وأمنية، صارت مهددة ببعثرة الأوراق، نتيجة حرب(IS) العبثية المدعومة أمريكياً.
مستقبل ضبابي
وبنظرة تحليلية لما يمكن أن يتمخض عنه هذا الموقف الأمريكي من الحرب على المديين المتوسط والبعيد، سنجد أن النتائج الإجمالية تصب في غير صالح الولايات المتحدة وجميع شركائها، وكذلك في غير صالح المشهد الأمني الخليجي والشرق أوسطي؛ فمن ناحية أولية، خسرت واشنطن وحليفتها(IS) زخم الدبلوماسية الاحتوائية التي كانت تنعم بها الأخيرة من قبل أطراف إقليمية خلال السنوات والأشهر الماضية.
ومن ناحية ثانية، أصبحت المصالح الأمريكية ومصالح شركاء البيت الأبيض في الخليج والبحر الأحمر، تحت تهديد عاطفة السخط الانتقامية المتنامية لدى شعوب المنطقة، والتي وجدت لها صدى كبيراً وميدانياً من التوظيف السياسي والعسكري والميليشياتي لدى كارهي أمريكا وحليفتها في مناطق عدة مثل لبنان واليمن وسوريا وإيران، إلى جانب قوى أخرى خفية على المستوى الإقليمي والدولي. ومن جهة ثالثة، سمح الموقف الأمريكي غير المدروس في هذه الحرب، بتعرية القيم الأمريكية، وتجريدها من أبعادها الأخلاقية والحقوقية، وأثبت لكثير من الدول والحكومات، أن البطش الأمريكي لا أمان له، وأن تحولاته الدراماتيكية المرتبطة بالمصالح الاستراتيجية لبلاد العم سام، لا تعترف سوى بمنطق القوة والتسلط وفرض الأمر الواقع، حتى ولو على حساب القيم الإنسانيةو مصالح الشركاء، وهو ما أوجد توجهاً مريباً تجاه ردود أفعال واشنطن المتوقعة وغير المتوقعة، يمكن أن يترتب عليه انسلاخ هؤلاء الشركاء عاجلاً أو آجلاً.
الداخل الأمريكي
وفي الحقيقة أننا إذا نظرنا إلى الصورة الكاملة لتداعيات حرب غزة على السلم والأمن الدوليين، فإننا لن نكون فقط بصدد توقعات باهتزاز بسيط ومحدود للأمن هنا أو هناك، ولكننا سنكون في مواجهة سلسلة مركبة من الاهتزازات الأمنية العميقة التي ستنطلق بالأساس من الداخل الأمريكي نفسه؛ إذ تؤشر تداعيات هذه الحرب داخل الولايات المتحدة إلى صعود تيارات شعبية، تقود موجة قوية من إظهار الأثر السلبي للدعم الأمريكي الأعمى لــ(IS)، إلى الدرجة التي قررت معها هذه التيارات تحت رعاية المجلس الوطني الديمقراطي الإسلامي، حجب التبرعات وعدم التصويت لإعادة انتخاب الرئيس بايدن عام 2024، وخاصة في الولايات المتنازع عليها كولاية ميتشغان وبنسلفانيا وأوهايو، بسبب تأييده لاستمرار الحرب؛ لذا فمن المتوقع أن يخسر الديمقراطيون وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي الحالي، دعم نسبة كبيرة من إجمالي 3.7 مليون أمريكي من جذور عربية وإسلامية، شكلوا في الانتخابات السابقة 64% كمؤيدين لبادين مقابل 35% قاموا بتأييد (دونالد ترامب)،وليس من المستبعد في ظل هذه الوضعية، حدوث اضطرابات سياسية وانتخابية قادمة داخل أمريكا، سيغذيها بكل تأكيد تداعيات الدعم الأمريكي الحالي للحرب، وهو في مجمله ما سينعكس إجمالاً، وبشكل سلبي، على دور واشنطن في منطقة الخليج والشرق الأوسط.
عواصف كامنة
وهذا الانعكاس المشار إليه سيكون له أبعاد أمنية وجيوسياسية إقليمية ودولية، باتت تتطل برأسها حالياً ضمن عدة سياقات مربكة؛ لعل من بينها عودة زخم التهديدات البحرية للتجارة الدولية على أيدي الحوثيين، واحتمالية تشظي الوضع العراقي وفق سيناريوهات انتقامية تقودها جماعات العنف المسلح الداخلية ضد المصالح الأمريكية رداً على مواقفها الداعمة للحرب، كما هي الحال في مناطق شمال العراق التي تشهد تهديدات مفاجئة للقوات الأمريكية، وهو ما يمكن أن يؤدي بدوره إلى عودة الاضطرابات الأمنية في هذا البلد المزدحم بالعرقيات الحبلى بأيديولوجيات مختلفة، وبالتالي قد يفضي إلى انحسار العلاقات العراقية الوليدة مع جيرانها الإقليميين وخاصة في منطقة الخليج، وهو ما ستدفع المنطقة ثمناً غالياً له حال حدوثه، كما أن ما يحدث ضمن سياقات الوضع الداخلي الحالي للمملكة الأردنية الهاشمية، من صدامات وتوترات عنيفة بين قوات الأمن والمتظاهرين ضد واشنطن و(TA) على خلفية حصار غزة، يعد هو الآخر من بين إرهاصات الأوضاع الهشة التي يمكن أن تنخرط فيها المنطقة بفعل استمرار الحرب، وذلك في ظل عجز أمريكي واسع النطاق عن ضمان السيطرة على جغرافيا الصراع وتداعياته المأساوية المحتملة.
دبلوماسية متراجعة
وانطلاقاً من ديناميكية الوضع الأمني في منطقة الخليج والشرق الأوسط، لا يمكن إغفال الأثر الناجم عن هذا العجز الأمريكي المشار إليه، فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني ومستقبل الدبلوماسية الأمريكية الرامية إلى تطويق إيران وتحجيم أدوارها الطموحة والنازعة إلى الهيمنة والسيطرة في المنطقة؛ إذ أن انسياق واشنطن نحو تلبية الطموحات الدموية لدعاة الحرب في(IS) يفقدها زخم تسويق تلك الدبلوماسية مستقبلاً لدى الغالبية العظمى من الأطراف الدولية والإقليمية، بعد أن ورطت الولايات المتحدة نفسها كشريك فاعل وكسبب مباشر في إبادة آلاف الضحايا الأبرياء من الأطفال والنساء والعائلات الفلسطينية بأسلحة أمريكية، وبالمقابل سيمنح هذا الانسياق الأمريكي (طهران) فرصة التوظيف السياسي والاستراتيجي والأمني لعاطفة الشعوب العربية والإسلامية المتأججة بمشاعر الغضب تجاه الأحداث في غزة، وتجاه الموقف الأمريكي اللاإنساني بشأنها، بل إنه ساعدها بالفعل على تقديم أذرعها العسكرية كحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، كقوى راعية لحقوق الإنسان وقضايا السلم والأمن الدوليين، وكوكيل مدافع عن القضية الفلسطينية التي تحتل أهمية قصوى لدى شعوب المنطقة، الأمر الذي يعني في مجمله، تجريد واشنطن مستقبلاً من ورقتها الدبلوماسية التي طالما لعبت بها ضد إيران في ميادين وصعد مختلفة، وهو ما سيعزز من الوضع النووي للأخيرة في المنطقة، بفعل العزلة الأمريكية المتوقعة بعد انتهاء الحرب، وهذا بدوره سيشعل صراع الأٌقطاب الإقليميين رغم برودة الأجواء الظاهرة، لكنه من جهة أخرى، قد يعزز أكثر وأكثر من التقارب الخليجي الإيراني ضمن سياقات مدروسة وتحالفات جديدة.
قبل فوات الأوان
وبعد، إن ارتباط المشهد الأمني في الخليج بطبيعة التحالفات القائمة بين دول مجلس التعاون الخليجي من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية، يسهم بشكل كبير في تأثر هذه الدول بأية مواقف سياسية أو استراتيجية أو عسكرية تتخذها واشنطن تجاه أي حدث إقليمي صغيراً كان أو كبيراً، كما يساهم من حين لآخر، في اضطرار دول المجلس؛ كلها أو بعضها، إلى إعادة ترتيب أولوياتها الداخلية وسياساتها الخارجية، وفق طبيعة الآثار المترتبة على تلك المواقف، وهو ما يحدث حالياً ضمن سياق المشهد الخليجي الراهن في ظل الأزمة الراهنة؛ لذا فعلى القائمين في البيت الأبيض، إدراك هذا الأمر دون عنجهية أو مكابرة، وخاصة فيما يتعلق بالقضايا المصيرية التي تمس الخصائص الحضارية والثقافية والدينية للدول الحليفة، ومن ثم، يتوجب على الإدارة الأمريكية، المبادرة بوقف فوري للحرب في غزة، وإعادة تقييماتها الشاملة بخصوص موقفها من القضية الفلسطينية ككل، هذا إلى جانب ضرورة قيامها بدراسة التداعيات السلبية التي يحدثها التصاقها الدائم بــــ(IS)، وهو ما سيصل بها إلى نتيجة واحدة حتمية وغير قابلة للمداورة أو التزييف، وهي أنها بدعمها لهذه الحرب، ارتكبت واحداً من أكبر الأخطاء التاريخية الصارخة في حق القيم الأمريكية الراسخة منذ التأسيس.