عبدالله الفَيفي عضو مجلس الشورى السابق لأرابيسك لندن: المملكة حريصة على مكافحة العنصرية والشعر يسترد مكانته
تابعونا على:

السعودية

عبدالله الفَيفي عضو مجلس الشورى السابق لأرابيسك لندن: المملكة حريصة على مكافحة العنصرية والشعر يسترد مكانته

نشر

في

4٬316 مشاهدة

عبدالله الفَيفي عضو مجلس الشورى السابق لأرابيسك لندن: المملكة حريصة على مكافحة العنصرية والشعر يسترد مكانته

الأستاذ الدكتور عبدالله بن أحمد الفيفي، هو أحد القامات الرفيعة في عالم الفكر والأدب والثقافة، وهو شاعر مفوه، وسياسي سعودي بارز، وهو رجل حضاري مشغول بهموم وطنه وهوية أمته.

يؤمن بتماهي الثقافة والسياسة، وبتداخل أدوارهما المعرفية والخدمية، ويرى أن تنوع النمط الشعري يمنح اللغة ثراءاً وجمالا، وأن سطوة الرواية على مكانة الشعر وهمٌ ومحض افتراء.

وفي حواره مع(أرابيسك لندن)، امتدح الدكتور الفيفي، دور مجلس الشورى السعودي في تعزيز مكافحة التمييز العنصري وتيارات بث الكراهية، كما تطرق في ثنايا كلامه إلى قضايا عديدة، تهم المثقفين والسياسيين وجيل الشباب، وهو ما يمكن مطالعته من خلال السطور القادمة من هذا الحوار.

حاوره: محسن حسن

  •  بداية دكتور، كيف ترى الخريطة الإبداعية الراهنة في المملكة العربية السعودية قياساً بمراحل ماضية؟

قد يفجؤك القول: إنِّي لا أراها في راهنها أفضل من ماضيها.

الإجابة التقليديَّة والمتوقَّعة: نحن اليوم أفضل من الأمس؛ نظرًا للربط التقليدي بين التطوُّر الأدبي والتطوُّر العمراني، أو الاجتماعي، غير أنَّ للإبداع الأدبي منطقه الخاص.

ولو طرحنا السؤال نفسه عن الخريطة الإبداعية الراهنة في العالم العَرَبي، لكانت الإجابة هي هي.

فلقد كان الماضي أغزر، وأحفل، وأكثر توهُّجًا وطموحًا، وربما لو طُرِح السؤال عن العالم أجمع، لجاءت الإجابة كذلك، لماذا؟ لتعقيدات الحياة الراهنة، وكثرة الملهيات، والصوارف عن الأدب، جملةً وتفصيلًا.

حتى إنَّ بعض المبدعين قد توقَّفوا عن إنتاجهم، ليس بالضرورة للتقدُّم في السِّن، الصُّحف والمجلَّات، بملحقاتها الأدبيَّة، التي كانت تضجُّ بالعطاء، توقَّف معظمها كذلك، أو تضاءل إلى رؤوس أقلام باردة.

ذلك التفاعل خلال الثمانينيَّات والتسعينيَّات من القرن الماضي خبا أواره، وتلك السِّجالات الفكريَّة توارت بالحِجاب. هذا إذا نظرنا إلى الخريطة الإبداعيَّة بمعايير الكمِّ وزخم الكيف.

أمَّا من حيث النوعيَّة والرصانة، فدعنا نُسلِّي أنفسنا بالزعم: إنهما يبدوان أفضل من ذي قبل.

وهذا أمرٌ طَبَعي، إنْ صحَّ زعمنا أصلًا؛ من حيث هو وليد النِّقلات النوعيَّة في التعليم والإعلام والمثاقفة الكونيَّة.

 

  •  من خلال مشوارك العامر بالعطاء الأكاديمي والأدبي والسياسي، ما جوهر الخلاصات الإنسانية التي ترسخت أكثر في قناعاتك الشخصية؟

هذه الحقول الثلاثة (الأكاديمي، والأدبي، والسياسي) لا ينفصل بعضها عن بعض في الجوهر، من حيث إنَّ الإنسان ليس بآلةٍ تُبرمَج لغايةٍ محدَّدةٍ، بل هو يجد في ثراء الحياة والأعمال ما يُغذِّي بعض الحقول من بعض.

ومثلما أنَّني من غير المؤمنين بأُكذوبة التخصُّص العقيم في مجال الإنسانيَّات، فإنَّني كذلك من غير المؤمنين بالانحباس في مجالٍ معرفيٍّ أو عمليٍّ دون سِواه.

ولقد جاء معظم عطائي العِلميِّ والإبداعيِّ خلال عملي عضوًا في مجلس الشُّورى، ذلك أنَّ فرضيَّة التفرُّغ للبحث أو للإبداع هي فرضيَّةٌ تقيس المجالات الإنسانيَّة إلى المجالات العِلميَّة البحتة، مع الفارق، إنَّ تعدُّد المشارب وتنوُّع المواقع في ميدان الإنسانيَّات عامل إثراءٍ، لا عامل تعطيل، أو تضحيل، أو إقواء.

اقرأ أيضاً: عام الشعر العربي يحيي تراث وثقافة العرب في السعودية

  •  برأيك دكتور، إلى أي حد يمكن أن يوظَف الإنتاج الشعري كقوة ناعمة معبرة عن البيئة المحلية؟ وهل نجح شعراء المملكة في مثل هذا التوظيف؟

معلومٌ أنَّها كانت للشِّعر وظيفةٌ في تراثنا العَرَبيِّ توازي وظيفة الإعلام في العصر الحاضر، ومن ثَمَّ كان الإنتاج الشِّعري يمثِّل ما يُمكن أن يُنعَت بـ(القُوَّة الناعمة)، في التعبير عن البيئة، والمجتمع، والثقافة، والحضارة، والقِيَم.

ولذلك استحقَّ الشِّعر أن يُطلَق عليه(ديوان العَرَب)، بمعنى سِجلِّ المآثِر والقِيَم والثقافة والتاريخ العَرَبي.

أمَّا في العصر الراهن فقد احتلَّت هذه المكانة وسائل الإعلام الحديثة، حتى أوشكت أن تذهب بتلك الوظيفة الشِّعريَّة العتيقة، بل أو شكت أن تَصرِف عن الشِّعر أصلًا.

والشأن في المملكة لا يختلف عن الشأن في الوطن العَرَبي أو في العالَم، ولذلك ليس من فراغٍ أن يتحوَّل الشِّعر من الموضوعيَّة (Objective) إلى الذاتيَّة (Subjective)، ومن التعبير عن هموم المجتمع والحياة في عمومها للانصراف إلى الغنائيَّة (Lyric)، حتى في تلك الثقافات الراسخة في تاريخ الأجناس الأدبيَّة الموضوعيَّة.

أمَّا الشِّعر العَرَبيُّ، فقد جعل يتَّجه إلى الغنائيَّة الذاتيَّة منذ عصرٍ مبكِّر؛ فغابت عنه الملحمة، والمسرحيَّة الشِّعريَّة، والشِّعر القصصي، والشِّعر التعليمي، وما إلى تلكم من الأجناس التي كانت قديمًا- ومنذ الإغريق ومن قبلهم- ينهض بها الإنتاج الشِّعري، إلى أن تولَّى هذه المهمَّة النثرُ الأدبيُّ في العصر الحديث.

 

  •  لكن هل يمكن أن ينجح مثل هذا التوظيف للشعر رغم مزاحمة كل تلك الوسائل المعاصرة والحديثة؟

لا شكَّ أنَّه يمكن أن يُوظَّف الإنتاج الشِّعري كقوَّةٍ ناعمة، وإنْ زُوحِم بوسائل معاصرة، تنقل الصورة الحيَّة، والتفاعل المباشر، وتروج عبر الوسائط الاجتماعيَّة، ولكن كيف؟ إنَّ للإنتاج الشِّعري بقاءه على الزمن، وقدرته على التكيُّف مع المستجدَّات الآنيَّة والمستقبليَّة، بطبيعته وبوظيفته الاختزاليَّة للمعاني، غير الملقاة في الطريق.

بَيْدَ أنَّه لا يسوغ الزعم أنَّ هذه القوَّة لها من الوصول والتأثير ما تنافس به الوسائل المباشرة الأخرى.

ولا سيما أنَّ الشِّعر يستعصي على الترجمة، وينبو عن المباشرة، وينتظر القارئ النوعيَّ الذي يستنبط منه ماء مائه، ذي المذاق الخاصِّ جِدًّا.

ثمَّ لا يخفى أنَّ الشِّعر أساسًا لا يَقبل التوظيف في خدمة قضيَّةٍ أخرى، بيئيَّة، أو أيديولوجيَّة، توظيفًا قصديًّا، وإلَّا انتفت الشِّعريَّة عن الشِّعر.

ولو كان السؤال عن الإنتاج الأدبيِّ عمومًا، لأمكن القول: إنَّ الأدب النثريَّ أقدر على مثل ذلك التوظيف النفعيِّ، وتلك المهمَّة التدافعيَّة.

إنَّ الأدب- والشِّعر بخاصَّة- لا يؤدِّي دَوره بلا حُريَّة مطلقة، ولا يؤدِّي دَوره إلَّا من خلال القارئ الناقد البصير.

ولذا فأنْ يُتوقَّع من الأدب، ولا سيما من الشِّعر، أن يمثِّل قُوَّةً ناعمةً بالمعنى الإعلاميِّ المعاصر هو توقُّع في غير محلِّه، سواء بالقياس إلى الأدب العَرَبي أو غير العَرَبي.  ذلك لأنَّ للأدب لغته الخاصَّة، وللشِّعر لغته الأكثر خصوصيَّة.

ولهذه الطبيعة الفارقة للخطاب الأدبي لا يصحُّ أن نضع الأدب تحت عباءة مصطلحٍ، كمصطلح (القُوَّة الناعمة)، بالمفهوم المعاصر، أو (غير الناعمة) بمفهومٍ آخَر!

ومنذ صيغ هذا المصطلح (القُوَّة الناعمة Soft power)، إذ سكَّه الأكاديمي السياسي الأميركي (جوزيف صموئيل ناي Joseph Nye)، 1990، لا أعلم أنَّ الأدب قد اتُّخِذَ بوصفه وسيلةً من وسائل هذه القُوَّة في العالم أجمع، بدِقَّة ما يعنيه ذلك الاتِّخاذ؛ للأسباب التي أشرتُ إليها.

نعم، قد يكون في الأدبِ قُوًى ناعمة داخليَّة، وطنيَّة أو قوميَّة، في حفظ القِيَم، وربما الوئام وتوطيد السِّلم الاجتماعي، لكنَّ ذلك أيضًا لا يتأتَّى إلَّا بأساليب غير مباشرة، وبطيئة الإثمار؛ بسبب تلك الطبيعة، والوظيفة المختلفة، للخطاب الأدبي، التي أسلفت القول فيها.

 

  •  ما الذي أفرزته تجربتك الخاصة في الالتحاق بلجنة الشؤون الثقافية والإعلامية بمجلس الشورى السعودي، وتحديداً فيما يتعلق بالاشتباك بين السياسي والثقافي؟   

لجنة الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة في مجلس الشورى- التي شرفت بعضويَّتها، ثمَّ بترؤُّسها- كانت تُعنَى بالشأن الثقافي والإعلامي تحديدًا، وتُعالج الشجون المتعلِّقة بهذين القطاعين.

على أني قد عملتُ أيضًا في لجان أخرى في المجلس، منها لجنة للشؤون الاجتماعية والأسرة والشباب.

أمَّا العلاقة بين السياسيِّ والثقافي، فلا أراها علاقة اشتباك، بل هي بالأحرى علاقة تماهٍ؛ إذا نظرنا إلى السياسة بمفهومها الثقافي، المتعلِّق بهموم الإنسان والحياة والمجتمع.

ذلك أنَّ السياسة بهذا المفهوم متداخلةٌ في حياة الإنسان العامَّة، ونشاطاته المتعدِّدة، ومواقفه، ورؤاه.

ولقد تحقَّقتْ بعض المشاريع أو التوصيات التي كنَّا نشتغل عليها إبَّان العمل في تلك اللجنة، وعلى رأسها أن أصبح للثقافة جهازٌ إداريٌّ مستقل، متمثِّلًا في(وزارة للثقافة)، بعد أن كانت الثقافة رديفةً للإعلام في جهاز واحد، ومنها إنشاء (مجمع عالمي للُّغة العَرَبيَّة) في المملكة، إلى غير ذلك من الآمال والطموحات.

 

  •  خلال عضويتكم بمجلس الشورى تبنى المجلس دوراً محورياً في مواجهة بعض تيارات التمييز وبث الكراهية في المجتمع السعودي .. حدثنا عن خلفيات هذا الدور، وهل امتد تأثيره الإيجابي لوقتنا الحاضر؟

جاء ذلك استنادًا إلى نظام المجلس، الذي يتيح للأعضاء اقتراح مشاريع أنظمة جديدة، أو اقتراح تعديل أنظمة نافذة، ودراسة ذلك في المجلس.

فجاء المقترح لمشروع نظامٍ جديدٍ باسم (نظام مكافحة التمييز وبثِّ الكراهية)، مكوَّنًا من  (29) مادَّة، في أربعة فصول، أعددتُه، وتبنَّاه معي عددٌ من الزملاء الأعضاء.

وذلك انطلاقًا من أنَّ المملكة تُوْلي موضوع عدم التمييز العنصري أهميَّة كبيرة، وتعمل على الحيلولة دون أيِّ سلوك ينطوي على تمييز، أو عنصرية، أو بثٍّ للطائفيَّة، أو الكراهيَّة، أو التعصُّب، والاحتقان الاجتماعي، أو الإساءة إلى الآخرين، أفرادًا أو جماعات.

غير أن الحاجة ظلَّت ماسَّة إلى نظام يجرِّم قانونيًّا العنصريَّة والكراهيَّة، مثلًا، ويحظر تشكيل المنظمات التي لها طابع عنصري، أو تؤيِّد التمييز العنصري، كما يعاقب من يقوم بتمويل أنشطة عنصريَّة، أو إصدار نشرات، أو مواد تحرِّض على الكراهيَّة.

ولذلك فإنِّ هذا النظام كان يسعى إلى المحافظة على السِّلم الاجتماعي، وعدالة تطبيق الأنظمة، وتجريم الأفعال التي تمسُّ هاتين الغايتين الساميتين، والمعاقبة على الممارسات المفضية إلى الفُرقة والتنابذ والتنابز والانقسام.

اقرأ أيضاً: السعودية: كل ماتريد معرفته حول شركة عطاء التعليمية

  •  وكيف تعامل هذا المشروع مع قضايا حرية الفكر والإبداع الأكاديمي المتعلقة بالطروحات المعرفية الخاصة بالعنصرية والكراهية والتمييز؟

لقد نص هذا المشروع على أنه “لا تسري أحكام هذا النظام على ما يُعَدُّ من النقد العِلمي الهادف، أو الطرح المعرفي الموثَّق، أو الجدل الفكري المؤسَّس على ضرورات التنوُّع الإنساني الطبيعي، ولا على ما يندرج ضمن ما تكفله الأنظمة من حُريَّة الرأي البنَّاء، والتعبير عن وجهات النظر الثقافيَّة، ممَّا لا يستهدف الإساءة أو الانتقاص أو إثارة النعرات.”

ولذا انطلق المشروع من مبادئ أساسية: منها أولًا: المبادئ الإسلاميَّة، الداعية إلى بثِّ روح التسامح والمساواة في المجتمع.

وثانيًا: التأكيد على المبادئ الوطنيَّة ومقوِّمات المجتمع. وثالثًا: المحافظة على مكتسبات الشعب، ومنع ما يدعو إلى المساس بها.

وعليه، كان من أهداف هذا المشروع: تعزيز القِيَم الساعية إلى التآلف والتقارب والتعاون واحترام الآخَر ومناهضة الكراهية والتطرُّف، ومنع الاعتداء على أماكن أداء الشعائر الدِّينية، أو الإساءة إلى المقدَّسات المرعيَّة، أو النيل من الرموز التاريخيَّة المشكِّلة للهويَّة الحضاريَّة، و حماية النسيج الاجتماعي من مخاطر التمييز بين أفراد المجتمع وفئاته في الحقوق والواجبات، لأسباب عِرقية، أو قَبَلية، أو مناطقية، أو مذهبية، أو طائفية، أو لتصنيفات فكرية أو سياسية، إلى جانب الحفاظ على المكاسب الوحدويَّة، من عواقب ما ينجم عن بثِّ خطابات الكراهية، ونشر النعرات، المهدِّدة للسلم الاجتماعي والإخاء الوطني والإنساني، بالإضافة لمواجهة نزعات التطرُّف والإرهاب، التي تهدِّد الأمن والسِّلم في المجتمعات العربية والإسلامية.

وقد وافق المجلس على دراسة مقترح هذا المشروع النظامي، منذ سنوات، وما زلنا نتطلَّع إلى أن يرى النور قريبًا، ولا يظلَّ حبيس الملفَّات المنسيَّة.

 

  • رغم تنوع المنجز الأدبي والعلمي والثقافي لديك، إلا أن الشعر احتل المرتبة الأولى في اهتماماتك.. ما السر في ذلك؟

ليس في الأمر سِر، أكثر من أنَّ الشِّعر ظلَّ يحتل لديَّ الصدارة من المَلَكات، أو قل من الاهتمامات، منذ الطفولة.

فهو، إذن، ليس بوليد التخصُّص أو الدراسة، وهو إلى هذا نزوعٌ عائليٌّ إلى حدٍّ ما، من جهة الأُبوَّة والخؤولة معًا:

ولَـولا  الحُـبُّ  ما كُـتِـبَتْ  حُـرُوْفٌ … ولا  سُـئِـلَ  الرُّسُـوْمُ   ولا الطُّـلُوْلُ

ولا هَـتَـفَــتْ  بِـفَـوْدَيَّ  اللَّـيالِـــيْ… كأنِّــيْ  فَــوْقَ   عاصِفَــةٍ   نَـزِيْـــلُ

ولا  قـالـتْ  وقـد  حَـنَّـتْ  رِكـابِـيْ… وقـد أَزِفَ التَّـشَـمُّـرُ   والرَّحِـيْــلُ:

على  قَلَــقٍ  فإِنَّ  الـمَوْتَ   سَـرْجِـيْ… وحَـادِيْـنَـا  على  المَسْـرَى  مَـلُــوْلُ!

 

  •  برأيك لماذا يحتفي الغرب بالشعر كما يحتفي بالرواية، بينما يجمع الجنسين صراع أدبي ظاهر في العالم العربي؟

الشِّعر هو نبض اللُّغات في الإنسان، وخدمته للقضايا الإنسانيَّة هي بإعادة الإنسان إلى إنسانيَّته.

وقد أجبتُ عن مثل هذا السؤال شِعرًا، في قصيدتي “عيون الشِّعر”، من (ديوان فَيْفاء، الصادر عن اتحاد الكُتَّاب العَرَب بدمشق، 2005) والتي يقول مطلعها:

يُـشِـيْعُ الـمُـرْجِفُونَ بـأنَّ خَطْـبًاأحـاطَ بِطـائـرِ  الشِّعْـرِ  الفَصـيحِ

«فُلـكـلوريَّـةً»  صـارتْ  مِـزاجـًافـلا تَحـفـلْ بذا  الفِكْـرِ  النَّطِـيْحِ!

لَكَـمْ  تُزْري  القَمـاءةُ  بالدَّعاوَى:تُحمْلِـقُ وهْـيَ  تَـنـظُـرُ  لِلسُّفُوحِ!

أمَّا الصراع، فيبدو مفتعلًا، فالعازفون عن الشِّعر عاجزون غالبًا، آخذون بما تيسَّر، وكل مُيَسَّرٌ لما خُلِق له.

غير أنَّ هذا العزوف كان أكثر قبل عقود، بل إن السَّاحة الشِّعريَّة تشهد اليوم أَوْبَةً ملحوظةً إلى القصيدة العَرَبيَّة تحديدًا، بنظامها الأصيل، حتى ممَّن كانوا عنها عازفين.

ولستُ- في كلِّ حالٍ- مع الانغلاق على قالبٍ واحد؛ فالتنوُّع إثراءٌ حيوي، ولكلِّ نمطٍ جمهوره ومتذوِّقوه، إلَّا أنَّه من الخطأ الحضاري الفادح إقصاء المختلِف، من قديم، أو حديث، أو نوع، والتلاعب بالمصطلحات، وإهمال الرصيد التراثي، ليس إلَّا عن قصورٍ عن استيعابه؛ فعِوَض تطويره، نقفز عليه لاستيراد جاهز، يبدو أسهلَ مركبًا، وأقلَّ مؤونةً على هواة الشَّعرنة والأضواء، أو نهجر الجنس الأدبيَّ العربيَّ الأوَّل، منادين بأنَّ “الرواية ديوان العَرَب المعاصر”، وهذا محض وَهْمٍ عابر.

 

  •  إلى أي حد أنت راض عن تطور النضج الشعري لدى شعراء المنطقة العربية؟ وماذا عن التجربة الشعرية الحداثية في المملكة العربية السعودية؟

قد تتفق معي أنَّ الوطن العَرَبيَّ، منذ بداية القرن الحادي والعشرين، يشهد ملامح أنضج من ذي قبل في التجارب الشِّعريَّة، تشي بآفاق مستقبليَّة أكثر تخلُّصًا من عثرات المراحل الانتقاليَّة التي مرَّت بها القصيدة الحديثة، في القرن الماضي، كما توقَّفتُ عند هذا في كتابي “حداثة النصِّ الشِّعري”، المنشور 2005.

إذ كان الصراع، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، يدور بين تيارٍ تقليديٍّ، ظلَّ مسيطرًا، وبين تجارب جديدة، كانت تتلمَّس طُرق التجديد، دون تأسيسٍ رصينٍ يؤهِّلها جِدِّيًّا للتجديد.

وبينهما فريقٌ ثالثٌ لم يكن يعنيه من الأمر- فيما يبدو- أكثر من أضواء الثَّورة والشهرة الآنيَّة.

ثمَّ قاربتُ مرارًا، خلال أعمالي النقديَّة، تحوُّلات المشهد الإبداعيِّ، وما مرَّت به التجربة الشِّعريَّة الحداثيَّة في السُّعوديَّة، وبعض التجارب خارجها، مثل الأردن، ومصر، والعراق، والمغرب، والسودان، وسوريا، ملاحظًا اتصال التجربة للاشتراك في الروافد.

على أنه من الحقِّ الاعتراف بأنَّ تلك التحوُّلات ظلَّت، بالقياس الزمنيِّ، وئيدةً؛ لا بسبب المستوى التأهيليِّ، لغويًّا وإبداعيًّا لدى الشعراء، فحسب، ولكن أيضًا لظروف اجتماعيَّة وثقافيَّة، ما برحت ترفض الجديد والتجديد وتُحبِط التجريب.

وهذا ما كان يدفع أحيانًا إلى التمرُّد، والتطرُّف، ردَّة فعلٍ على تطرُّفٍ سابق، كما هو الحال في شؤوننا العَربيَّة عمومًا.

وبالرغم من هذا، فإن الاستقراء كان يشير، خلال العِقدَين الأوَّلين من القرن الحادي والعشرين، إلى أنَّ القصيدة الحديثة قد أفضت إلى عهدٍ جديد، يُنبئ عن انصهار التيارات السابقة في تيارٍ أجد، سبق أن أطلقتُ عليه (الحداثة الأصيلة، أو الأصالة الحداثيَّة)، أو سَمِّه، إنْ شئت: (ما بعد حداثة)، تقوده شبيبةٌ، جمعتْ إلى المواهب تعليمًا أغنَى، وفِكرًا أرحب، قمينَين بأن يبعثا وعيًا بالتراث، وإدراكًا أعلى بمسؤوليَّات التحديث.

هذه شهادة، قديمة راهنة في آن، ما زلت أُراهن على ما جاء فيها.

وهي تؤكِّد ما قلتُ في إجابةٍ سابقة: إنَّ المخاض، مهما طال، كفيلٌ بأن يُسفِر عن مولودٍ ما، والبقاء لن يكون إلَّا للأصلح، بمعايير الفنِّ والحياة معًا.

اقرأ أيضاً: كل ما تريد معرفته عن بينالي الدرعية للفن المعاصر 2024

  •  في الختام، إلى أية آفاق اتجه المنجز الإبداعي للدكتور الفيفي خلال الخمس سنوات الماضية؟ وإلى أين يتجه مستقبلاً؟

خلال السنوات الخمس الماضية أصدرتُ مجموعتين شِعريتين، هما: “إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِق”، عن (النادي الأدبي الثقافي بالطائف، 2021)، و”أفلاك (على مَقام الرَّصْد)”، عن (النادي الأدبي الثقافي بمنطقة الباحة، 2019).

إلى جانب كتابٍ علميٍّ، عنوانه “تاريخ بني إسرائيل وجزيرة العَرَب، من التَّاريخ الميثولوجي إلى الجغرافيا الهرمنيوطيقيَّة: مُراجعاتٌ منهاجيَّةٌ في نماذج تاريخيَّة مُعاصرة، (مع ترجمة «وصف بلاد العَرَب قبل الميلاد»، لسترابو)”، صدر عن (عالم الكتب الحديث بالأردن، 2019).

وأعمل حاليًّا على كتابٍ نقديٍ موسَّع حول الجِنس وقضايا النوع الأدبي، سيصدر قريبًا، بعون الله، وكتاب آخَر، (موسوعي: لغوي ثقافي)، إضافة إلى مجموعتي الشِّعريَّة السادسة، التي تُناهز الحُلم.

X