مقالات
فنون الخردة والنفايات.. مهارات الفن والتشكيل بمنظور اقتصادي مستدام
نشر
منذ سنة واحدةفي
1٬020 مشاهدة
By
Baidaيلعب الفن دوراً كبيراً ومهمًا جدًا في حياتنا؛ فهو يشكل وعينا وثقافتنا ويجسد تاريخنا البشري كله، من خلال أنماط متعددة من التعبير عن الإبداع والجمال.
ولأن الفنان عنصر بشري مختلف عن غيره، وعياً وإدراكاً وقدرة على التسلل إلى عمق المرئيات الظاهرة؛ فإنه يمتلك رؤية مختلفة للأشياء من حولنا، وعبر هذه الرؤية يكون باستطاعته إحالة القبح جمالاً، وتدوير المهمل المتروك ليصبح عين الاهتمام والحضور، كما أنه دوماً يكون صاحب جدارة معتبرة في تحديد المشكلات ووضع الحلول المناسبة لها في كثير من الأحيان؛ ولذا فقد كان الفنان في شتى العصور مُعيناً على حفظ التراث والتاريخ، أميناً على تعزيز الأمن والسلام المجتمعي.
كتب: محسن حسن
ثورة حداثية
ويعد مجال تدوير النفايات وقطع الخردة عبر تحويلها إلى أعمال فنية من رسومات ومجسمات وقطع للديكور المنزلي والتجميل البيئي من قبل الفنانين التشكيليين، أحد أهم المظاهر الدالة على قيمة الفن والفنانين في انتشال البيئات البشرية من ملايين الأطنان المهملة من بقايا المواد ومخلفات المصانع والحرف المختلفة، والتي يساهم وجودها مهملة في الإضرار بالبيئة والإنسان على صعد مختلفة صحية وروحية واجتماعية واقتصادية.
وقد برزت هذه التوجهات الفنية المستدامة بقوة خلال القرن العشرين، كجزء من الثورة الحداثية ضد استخدام المواد التقليدية في الفنون الجميلة، ورغبة في إثبات جدارة الفن بتوظيف المهارات البشرية لتحويل أي شيء مهمل إلى عنصر فني يمكن الاستفادة به؛ فظهر مصطلح (فنون النفايات junk art) لأول مرة عام 1961 على يد الناقد الإنجليزي (لورانس لواى) لتوصيف النشاط الفني والتشكيلي القائم على صياغة الأعمال الفنية وصناعتها من الخردة والنفايات كقطع المعدن، والآلات المستهلكة والمكسورة، وكذلك الأخشاب ومهملات الأقمشة والأوراق وغيرها، وذلك بعد أن ذاعت هذه النوعية من الأعمال الفنية خلال خمسينيات القرن الماضي، على يد الفنان الأمريكي (ريتشارد راوشنبرغ)، ثم بعد ذلك على يد الكثير من الأعمال الفنية لجماعة الــــ(Funk art ) التشكيلية في كاليفورنيا، إلى جانب أعمال فنية أخرى.
وقد شهد العام 2002، إحياء مفهوم المصطلح ذاته، عندما قام كل من (ويليام ماكدونو) و (مايكل برونغارت) عبر كتابهما المشترك (Cradle to Cradle) بتعريف إعادة التدوير، على أنه إعادة تصميم الطريقة التي نقوم خلالها باستخدام الأشياء من حولنا.
تاريخ قديم
وفي الحقيقة، مرت فنون النفايات بالعديد من المراحل قبل أن تتشكل كتيار فني واضح الملامح خلال القرنين: العشرين والحادي والعشرين؛ إذ تعود الجذور الأولى لفنون التشكيل من النفايات إلى عصور قديمة وضاربة في القدم؛ حيث تعد (حصاة ماكابانسجات) التي تزن 260جراماً، والتي هي على شكل وجه بشري فظ الملامح والقسمات، من أقدم القطع التي عثر عليها عام 1925 في جنوب أفريقيا، ويعود تاريخها لأكثر من 2.8 مليون سنة، ورغم أن هذه الحصاة وجدت متشكلة طبيعيا، إلا أنها عُدت مثالاً لأقدم تشكيل من شيء مهمل في الطبيعة.
وعلى وجه الدقة، يعد الفنان الفرنسي (مارسيل دوشامب) أول من قام بنحت أعمال فنية من مخلفات القمامة، وهناك أيضاً الفنان الألماني (كورت شفيترز) والذي أمد الفن الحديث بمنحوت معقد مصنوع من الورق والكرتون ومخلفات القمامة، هذا بالإضافة لفناني مرحلة التصوير التكعيبي الاصطناعي بقيادة (بابلو بيكاسو) و (جورج براك)، والذين مهدا لمرحلة جديدة من فنون الخردة؛ حيث وجدنا بيكاسو مثلاً يقدم عام 1913 منحوتات مثل الغيتار المصنوع من الصفائح المعدنية والأسلاك، وكلاهما كان يقوم منذ بدايات القرن العشرين، باعتماد الصور المجمعة من الصحف أو المجلات القديمة للخروج بمكونات فنية جديدة، كما وجدنا في ذات الفترة، الفنان الأوكراني (فلاديمير تاتلين)، والفنان الروسي (فلاديمير روسين) يقدمان في فرنسا منحوتات من الخشب المطلي والكرتون وقشور البيض، هذا إلى جانب أعمال الفنان الفرنسي (هنري لورنس) المصنوعة من الأخشاب والصفائح الحديدية متعددة الألوان، وأعمال الفنانة السويسرية (صوفي آرب) المتشكلة من الخشب المطلي والتركيبات المعدنية، وأيضاً أعمال الفنان الروماني (مارسيل جانكو) المصممة من مخلفات الورق والكرتون والخيوط والباستيل.
فردية وجماعية
وعلى الرغم من تعدد أنماط التشكيل الفني عبر توظيف المخلفات والأشياء المهملة لدى جميع الفنانين السابقين، إلا أن أعمالهم اتسمت بالفردية ولم يتمكنوا من جعل هذا الفن تياراً فنياً، وذلك حتى حلول الخمسينيات من القرن الماضي، عندما ظهرت أعمال (روبرت راوشنبرغ) التي تجمع بين الرسوم الزيتية والمنحوتات القائمة على استغلال مخلفات كالأقمشة والكابلات الكهربائية والمعادن، الأمر الذي شجع نحاتين آخرين كالنحات الأمريكي (ديفيد سميث) والفنان الفنزويلي (خيسوس رافائيل) ونحات النسيج الفرنسي (إتيان مارتن) والفنان السويسري (جان تينغلي) والفنان البلغاري (كريستو جافاشيف)، على استخدام المخلفات والنفايات الحضرية كقطع الفولاذ الملحومة والمسامير والحبال والجلود والمعادن والبلاستيك، ليتكون تيار جديد من فناني تشكيل الخردة والنفايات في أعمال فنية عديدة وذات أبعاد ومواضيع مختلفة، سمحت باتساع رقعة هذا الفن، ليصبح لدينا مجموعة من أشهر فناني الخردة والنفايات ممن احتلوا مكانة بارزة خلال القرنين الأخيرين، أمثال الفنان الفرنسي الأمريكي (أرمان فرنانديز) والذي يعد من أشهر رواد فن الخردة خلال الستينيات عبر مجموعة كبيرة من الأعمال المصنوعة من الحطام والنفايات، والفنان الفرنسي (سيزار بالدكيني)، والذي اشتهر بمنحوتاته المصنوعة من قطع غيار السيارات، والنحات الأمريكي (جون تشامبرلين) عبر أعماله المصنوعة من الفولاذ والصفائح المعدنية المطلية بالكروم، والمصور والنحات الإنجليزي (جوزيف جوتو)، والمخرج السينمائي (بروس كونر) الذي ذاع صيته عبر أعماله وتركيباته المخيفة المصنوعة من الجوارب القديمة والدمى المكسورة.
هذا إلى جانب إسهامات مدارس فنية عديدة في نمو التدوير الفني للنفايات، منها على سبيل المثال، الأعمال التي تنتمي إلى مدارس (Pop Art) و (Drap Art) و (Trash Art) ومدارس أخرى غير ذلك.
شباب العاصمة لندن
وفي بريطانيا، كان لفنون الخردة والنفايات تواجد ملحوظ على أيدي مجموعة كبيرة من فناني وشباب ما بعد الحداثة، عرفوا باسم (Young British Artists)، والذين ظهروا أواخر الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين دون خصائص مشتركة بينهم، اللهم باستثناء استقلاليتهم في اختيار الأساليب الفنية، وكونهم ينتمون إلى شريحة الشباب؛ فكانوا مزيجًا متنوعًا من الرسامين والنحاتين وفناني الفيديو والمصورين، لكنهم استطاعوا الحصول على رعاية خاصة من المليونير (تشارلز ساتشي) والذي ساعدهم على إقامة ستة معارض في العاصمة (لندن) خلال الفترة من 1992 وحتى 1996، احتضنتها قاعات معرض لندن للفن المعاصر (Saatchi Gallery)، وأصبحوا بعدها يتمتعون بعضوية أكاديمية لندن الملكية، ويحصلون بانتظام على جائزة (Turner) التي تعد أهم وأرفع جائزة بريطانية ممنوحة في الفنون المعاصرة لمبدعين تحت سن الخمسين عاما، ومن بين أهم هؤلاء الفنانين: دوغلاس جوردون، تريسي أمين، ماركوس هارفي، جيك ودينوس تشابمان، راشيل ويتريد، جاري هيوم، مارك والينجر، جيليان ويرنج،كريس أوفيلي، مارك كوين، جيني سافيل،ستيف ماكوين، وغيرهم ممن ظهروا بعد ذلك خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أمثال: تيم نوبل، دارين ألموند، مايك نيلسون، سو ويبستر، أوليفر باين،كاري يونغ، نيك ريلف، إيفا روتشيلد، ديفيد ثورب، سيمون ستارلينج، وآخرين.
وقد تميزت أعمال الفنانين البريطانيين الشباب بتنوع وثراء كبيرين من حيث توظيف واستخدام كافة العناصر والمفردات المتاحة في البيئة والطبيعة من النفايات والخردة والأشياء المهملة والأساسيةـ وذلك عبر أطياف مختلفة من فنون الرسم والنحت والتجميع والتصوير الفوتوغرافي والفنون المفاهيمية وفنون التركيب والفيديو وغيرها، وكان من بين هذه العناصر والمفردات على سبيل المثال: الديدان، الحيوانات الميتة، القوالب الخرسانية، الأسرة المحاطة بمخلفات شخصية جداً، كائنات محطمة، روث الفيل، الدم المجمد، الدمى المشوهة.
ورغم تعرض شباب الفن هؤلاء لبعض الانتقادات الحادة بدواعي نقدية تتهمهم بعدم الحرفية، إلا أنهم أعادوا تنشيط كافة وسائل الفن المعاصر جميعها بالتقريب، كما قاموا بتنشيط أجيال جديدة من المعارض الفنية المعاصرة.
الخردة والبورتريه
ومن بين أبرز الفنون التشكيلية التي ظهرت في مجال فنون النفايات، يحتل فن البورتريه مكانة كبيرة في إظهار قدرات ومهارات الفنانين المشتغلين بهذا الفن؛ حيث أثبتوا براعة فائقة في توظيف الاكسسوارات المنزلية والحجارة وفضلات الأقمشة والرمال والأزرار وغيرها، من أجل الخروج بملامح واضحة ومميزة ودقيقة في نفس الوقت لجميع الشخصيات الرجالية والنسائية من مشاهير العالم، فرأينا بورتريهات رائعة من النفايات للعديد من تلك الشخصيات مثل ديانا أميرة ويلز، والملكة الراحلة إليزابيث الثانية، وألبرت أينشتاين و باراك أوباما ومارلين مونرو والموناليزا، إلى غير ذلك من رسومات وبورتريهات، هي في حقيقتها تؤكد قدرة الفنان التشكيلي على تجاوز صعوبات عديدة، خاصة وأن فنون تشكيل البورتريه تعد من الأعمال الفنية الشاقة والصعبة، حتى في الأحوال العادية التي يتم استخدام الريشة والألوان، فما بالنا عند استخدام نفايات القمامة والمخلفات، فإنها تتطلب إبداعات خاصة، ورغم ذلك فإن المهارات الفنية للعاملين في هذا المجال، أثبتت الدقة والجدارة الفنية في تحديد ملامح وتفاصيل الوجوه المرسومة، وهو ما يدعو للإعجاب والدهشة.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الفنان التشكيلي الأمريكي (زاك فريمان) والحاصل على درجة الامتياز في دراسته بكلية الفنون الجميلة في جامعة جاكسونفيل بولاية فلوريدا عام 1997، يعد من أبرز رسامي البورتريه من النفايات خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين؛ فقد استطاع بمهارة غير مسبوقة عبر هذا الفن، أن يمنح مشاهدي لوحاته وبورتريهاته صوراً واقعية دقيقة التفاصيل عند النظر من بعيد، إلى جانب حصولهم على مفاجآت سارة ومدهشة عند التدقيق في تلك اللوحات عن قرب.
بين الفن والاقتصاد
وبعيداً عن فانتازيا الفنون التشكيلية الهادفة فقط إلى إظهار البراعة الفنية في خلق إبداع جديد يعتمد على تجميع متفرقات، فإن النمط الفني القائم فعلياً على توظيف الخردة والنفايات والأشياء المهملة في المنزل والشارع وعموم المناطق والمدن، يحتل أهمية كبيرة في الوقت الحاضر؛ نظراً لأنه يساهم بأدوار في منتهى الحيوية من حيث الاستشفاء البيئي والعلاجي؛ إذ أن من أهم خصائص هذا الفن، أنه يخلص البيئة من كافة المواد والأدوات والأشياء غير المفيدة من خلال إعادة استخدامها وتدويرها بطرق وأساليب صحية وجمالية، وهو ما يساهم في تكوين بيئة استشفائية نقية ونظيفة، ومن جهة أخرى، فإن للموضوع وجهة اقتصادية، وخاصة في بريطانيا؛ فمن المعروف أن المملكة المتحدة تقوم بتصدير كميات هائلة تصل إلى ملايين الأطنان من النفايات سنوياً إلى الأسواق الدولية وخاصة الصين التي تحصل على نصيب الأسد من الورق والمعادن وباقي المواد المعاد تدويرها، وبحسب الجمعية البريطانية للمعادن وإعادة التدوير، فإن البلاد تقوم بالتصدير إلى أكثر من 100 دولة حول العالم، بعد أن كانت خلال السبعينيات والثمانينيات من الدول المستوردة للنفايات المعاد تدويرها، وأن شركات إعادة التدوير البريطانية، قامت فقط خلال عامين بتصدير أكثر من 12 مليون طن من المعادن المعالجة، وبقيمة مالية تزيد على 3.5 مليار جنيه استرليني، ما يعني أن البلاد تمتلك فائضاً كبيراً من النفايات، وأن أنشطة إعادة التدوير يمكنها أن تساهم ــ بخلاف التصدير ــ في دعم الاقتصاد الوطني والميزان التجاري للمملكة المتحدة، من خلال مأسسة فنون تحويل النفايات وتحويلها من مجرد أنشطة فنية خاصة بأصحابها، إلى منظومة صناعية/فنية متطورة تساهم في إيجاد صيغ اقتصادية واعدة عبر الفن، يمكنها توفير أموال طائلة تنفقها البلاد على استيراد المواد اللازمة للصناعات المختلفة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تساعد في الحد من الانبعاثات والغازات المؤدية للاحتباس الحراري، والتي تكبد الخزينة الإنجليزية الكثير من الأموال.
نظرة قاصرة
وبتدقيق النظر في تقييم المسؤولين الحكوميين داخل بريطانيا، للدور الاقتصادي المستدام الذي يمكن أن تقوم به فنون إعادة التدوير، سنجد أنه يعاني من الضعف والقصور على كافة الأمداء القصيرة والمتوسطة والبعيدة؛ ففي الوقت الذي تسعد به الحكومة حالياً بارتفاع حصيلتها المالية من تصدير النفايات إلى دول العالم، فإنها تغفل العديد من العوامل السلبية الأخرى، والتي يأتي على رأسها عدم السماح للفنانين المهرة بتحسين وتطوير عمليات التدوير المحلية، والتي يمكنها مضاعفة العوائد المالية المتحصلة من التصدير، هذا إلى جانب ما تتسبب فيه النظرة القاصرة للدور الاقتصادي للفن، من حرمان البلاد من طاقات إبداعية خلاقة يمكنها اكتشاف العديد من أوجه الانتفاع المستدامة للنفايات المحلية، وفق أساليب غير تقليدية تساهم في إطلاق مشاريع اقتصادية وريادية محاربة للبطالة ومعززة للدخل القومي والعملة الوطنية، وفي حين تغذي بريطانيا محطات توليد الطاقة من النفايات في العديد من البلدان، فإنها تحرم نفسها من تعزيز قدراتها الطاقية، بينما تساهم ضريبة المكب المدرجة ضمن القوانين البريطانية منذ عام 1996 في جعل تصدير النفايات أقل كلفة من التخلص منها في مكب النفايات، الأمر الذي يهدد مستقبل الأمن الطاقي في ظل زيادة الأسعار المحلية لعناصر الطاقة، وتزايد المخاوف والمهددات المحيطة بالإمدادات الطاقية المستقبلية، وهو ما يستوجب على بريطانيا التفكير الجدي في تقليص حجم تصدير النفايات، مقابل التوسع في إعادة تدويرها واستخدامها داخلياً، خاصة وأن التقلبات المحتملة في سوق تصدير النفايات، إلى جانب استحواذ الدول المستوردة لها، وخاصة الدول الآسيوية، على حصص كفاية ذاتية، سيفتح المجال لتلك الدول لدعم قدراتها على إعادة التدوير والمعالجة المحلية، وهو ما سيؤدي إلى تضاؤل الطلب على واردات النفايات من الخارج، وبالتالي تحتاج المملكة المتحدة إلى تدشين صناعة النفايات الخاصة بها، ولن يكون ذلك إلا من خلال سياسات استثمارية كبيرة، وتنمية شاملة للوعي بالقيمة الجوهرية للنفايات، وبكل تأكيد، يجب أن يكون لفنون التدوير المبدعة دورها في هذا الإطار.
أسلوبان ونتيجتان
وإجمالاً، فنحن على المستوى العالمي والدولي بخصوص تدوير النفايات، أمام ضرورة قصوى تستوجب التدوير على كل حال؛ فالقوارير الزجاجية والأكياس البلاستيكية وجميع النفايات التي تملأ مكبات النفايات أو تطفو عائمة فوق مياه الأبحر والأنهار و تنتشر في أماكن عديدة من عشوائيات العالم الثالث، كل هذه الكميات الهائلة من النفايات التي يولدها مجتمع اليوم، أصبحت إعادة تدويرها، إجراءً ضروريًا لحماية البيئة، وإذا كانت الطريقة التقليدية والتاريخية في إعادة التدوير، تعتمد على أسلوب المعالجة القائمة على إبطاء الدورة التدميرية، وهو الأسلوب الذي يترتب عليه فقدان جودة المخرجات الناتجة بعد المعالجة، فإن أسلوب إعادة التدوير عبر المهارات الفنية والتشكيلية، يتيح أمام العالم آفاقاً أوسع من حيث المنفعة الشاملة؛ حيث يجنبنا هذا الأسلوب عيوب فقدان الجودة، ويُكسب المواد التي يتم تدويرها قيمة جديدة بفضل التدخل الإبداعي؛ حيث تصبح جميع النفايات في أيدي الفنانين، شكلاً من أشكال الاستدامة البيئية، والذي يسلط بدوره الضوء على تدهور الكوكب بيئياً ومناخياً، بل ويساهم في علاج هذا التدهور بشكل عملي واستثماري، وأيضاً بشكل مفاهيمي عبر رسالة الفن الهادفة، والمتعلقة بلفت أنظار العالم إلى مخاطر الاستهلاك المفرط والتلوث البيئي، وذلك من خلال أعمال تدوير فنية، تتجاوز المفهوم التقليدي للتدوير، كما تتجاز القيمة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية للمنتج الأصلي المعاد تدويره؛ فمن السمات الرئيسية لهذا الأسلوب، أنه لا يقتصر على شكل واحد أو تخصص واحد، ولكن يتم تمثيله عبر أنماط ثرية ومتنوعة؛ فيمكننا أن نجد الفن المعاد تدويره في لوحة، أو في منحوتة، أو في تصميم للأزياء الراقية أو في أثاثات المنازل أو في جداريات الشوارع أو في الحدائق والمتنزهات، وفي كل هذا، تظل القيم البيئية الخاصة بإعادة التدوير وإعادة استخدام المواد، حاملة لنفس قيمة العمل الفني نفسه، إلى جانب إطالة العمر الإنتاجي للمواد المراد تدويرها.
مسؤولية مجتمعية
وفي الختام، نود التأكيد على أهمية إعادة النظر في التقييمات المحلية المتواضعة لدى حكومات الدول، بشأن الجدوى الاقتصادية والبيئية والاستثمارية لأنشطة تدوير النفايات عبر فنون النحت والتشكيل وغيرها من الفنون المهتمة بالتدوير والمعالجة المهارية والإبداعية للمخلفات والمهملات؛ إذ تقتضي المسؤولية المجتمعية على المستوى الدولي، أن تصبح تلك الأنشطة من قبيل القطاعات الاقتصادية المستقلة، وأن تُسخَّر لها من الميزانيات ما يتناسب وحجم ما يمكن أن تقدمه من فوائد شاملة مالية وبيئية وثقافية وحضارية وجمالية وإنسانية، وهي الفوائد التي يمكن إدارك أهميتها في النهضة والتطوير المستدام، من خلال تأمل أعمال العديد من الفنانين المتميزين أمثال الفنان الألماني (غيرهارد بار)، والذي ابتكر منذ أكثر من عقدين، العديد من الأعمال الفنية عبر التدوير من القمامة البلاستيكية، وبشكل جمع بين الجماليات والبيئة والمسؤولية الاجتماعية، هذا إلى جانب الأعمال الملهمة للفنان البلجيكي (ويم دلفوي)، والذي أوجد توظيفاً بيئياً مستداماً لإطارات السيارات عبر استخدامها في نحت أشكال مستوحاة من الطبيعة كالزهور والنباتات، والفنان الياباني (يوكن تيرويا) الذي اعتمد في نشاطه الفني على استخدام لفائف ورق التواليت والأكياس الورقية وزهور الفراشات، للتعبير عن بيئته المحلية التي ولد فيها، وتدوير نفاياتها في محافظة (أوكيناوا)، وأخيراً، فنانة لندن التشكيلية (مارثا هافرشام)، ومعها مواطنتها الإنجليزية (ميشيل ريدر) وهما من أشهر فناني بريطانيا المتخصصين في هذا النوع من فنون التدوير؛ فالأولى فنانة متعددة التخصصات، تركز على إنشاء صور مجمعة من النفايات المتعلقة بأزياء النساء، بينما الثانية، تصنع منحوتات بعناصر ميكانيكية معاد تدويرها من الألعاب والساعات التي تجمعها من مقالب القمامة وعلى جوانب الطرق والمتاجر المستعملة.
وجميع هذه الأعمال، يمكن أن تتطور إذا لاقت ما تستحقه من اهتمام رسمي من قبل الحكومات والدول، فبإمكانها أن تكون مصدراً ثرياً وفعالاً من مصادر الاقتصاد والدخل القومي.