ما هي الفاتورة التي يدفعها عقلك مقابل جشعك وطمعك؟
تابعونا على:

مدونات

ما هي الفاتورة التي يدفعها عقلك مقابل جشعك وطمعك؟

نشر

في

114 مشاهدة

ما هي الفاتورة التي يدفعها عقلك مقابل جشعك وطمعك؟

بقلم: عروة درويش

غالباً ما يُصوَّر الجشع على أنه رذيلة، وقد كان على مرّ التاريخ موضع إدانة من الكثير من التيارات الأخلاقية والدينية. لكن بات منذ فترة ليست بالبعيدة، موضع إشادة. فبينما يراه البعض أصل السلوك غير الأخلاقي والضرر المجتمعي، يجادل آخرون بأنه يُحفّز الطموح ويعزز النمو الاقتصادي. سأحاول تالياً في هذا المقال، أن استكشف الطبيعة المتعددة الأوجه للجشع، مُسلطاً الضوء على جذوره النفسية، وتأثيراته العصبية البيولوجية، وانعكاساته الاقتصادية، فالجشع يتطلّب نظرة أعمق إلى أسسه النفسية والبيولوجية.

سيكولوجياً: هل الجشع جيد أم سيئ؟

يُعرَّف الجشع بأنه رغبة جامحة لا تشبع إلّا بالمزيد دون نهاية، سواء كان ذلك المال أو السلطة أو الممتلكات، بما يتجاوز احتياجات البقاء والراحة بكثير. من الناحية الواقعية، يمكن أن يؤدي هذا السلوك إلى نتائج إيجابية وسلبية على حد سواء. فمن ناحية، قد يكون الأفراد الجشعون أكثر إنتاجية بالمعنى الاقتصادي، ويسعون باستمرار إلى تحقيق المزيد من الإنجازات. ولكن من ناحية أخرى، يرتبط الجشع المفرط بالسلوك غير الأخلاقي وتراجع مستوى الرفاه الشخصي.

يُظهر الجشع تشابهاً مع السلوكيات الإدمانية، حيث ينشّط «نظام المكافأة Reward System» في الدماغ، ويشير هذا المصطلح في علم الأعصاب إلى شبكة من المناطق الدماغية التي تشمل المخطط العصبي Striatum، والنواة المتكئة Nucleus Accumbens، والقشرة الجبهية الأمامية Prefrontal Cortex، والتي تعمل مع الدوبامين كناقل عصبي رئيسي لتعزيز السلوكيات المرتبطة بالمكافآت. إذاً يؤدي الجشع إلى إطلاق مادة الدوبامين، وهي الناقل العصبي المرتبط باللذة والتحفيز.

لكن قد يؤدي الجشع أحياناً إلى سلوكيات قهرية:

المادية وانخفاض مستوى السعادة

غالباً ما يتجلى الجشع في شكل المادية: أي إيلاء أهمية كبيرة لاكتساب الممتلكات المادية. وتشير الأبحاث إلى وجود علاقة سلبية بين المادية ومستوى السعادة، حيث يميل الأفراد الذين يعطون الأولوية للثروة والممتلكات إلى الشعور برضا أقل عن حياتهم. يُعزى ذلك إلى أنّ السعي وراء الأشياء المادية قد يخلق شعوراً بالفراغ والإحباط، إذ إن هذه الممتلكات غالباً ما تفشل في تلبية الاحتياجات النفسية العميقة.

التكيّف اللذّي (Hedonic Adaptation)

يشير مفهوم «عجلة اللذة» إلى أن الناس يعودون بسرعة إلى مستوى ثابت من السعادة بغض النظر عن التغيرات الإيجابية أو السلبية في حياتهم. وفي سياق الجشع، يؤدي السعي المستمر وراء الثروة أو الممتلكات إلى زيادات مؤقتة في السعادة، لكن الأفراد سرعان ما يعتادون عليها، فيعودون إلى مستوى سعادتهم الأصلي. ينتج عن ذلك دورة لا تنتهي من البحث عن المزيد دون تحقيق رضا دائم، مما يؤثر سلباً على الرفاه العام.

متلازمة الثروة المفاجئة

قد يؤدي اكتساب الثروة بشكل مفاجئ إلى ما يُعرف بـ «متلازمة الثروة المفاجئة Sudden Wealth Syndrome (SWS)»، والتي تتميز بأعراض مثل العزلة والقلق والاكتئاب. فالضغط الهائل الناتج عن إدارة الثروة الجديدة التي أوصل الجشع إليها، قد يزعزع الاستقرار النفسي للفرد، مما يؤدي إلى التوتر وتراجع الصحة العقلية.

اضطرابات المال

يرتبط الجشع بعدد من الاضطرابات المالية، بما في ذلك الإنفاق القهري، والمقامرة، وتكديس الممتلكات. تُسبب هذه السلوكيات ضغوطاً نفسية وعاطفية كبيرة، مما قد يؤثر سلباً على رفاهية الشخص.

عبادة المال

يؤدي الاعتقاد بأن المزيد من المال سيجلب السعادة تلقائياً — وهو ما يُعرف بـ «عبادة المال» — إلى شعور دائم بعدم الرضا. وقد يدفع هذا الاعتقاد الأفراد إلى تبني سلوكيات ضارة، مثل العمل المفرط أو اللجوء إلى ممارسات غير أخلاقية في سبيل تحقيق الثراء، مما ينعكس سلباً على صحتهم النفسية والعاطفية.

اقرأ أيضاً: أهم النصائح لمواجهة الاضطراب العاطفي الموسمي

المنظور العصبي البيولوجي: هل يؤثر الجشع على مناطق معينة في الدماغ؟

كشفت دراسات حديثة في تصوير الدماغ عن تأثير الجشع على النشاط الدماغي. يظهر الأفراد الذين لديهم مستويات عالية من الجشع تغيّرات في نشاط القشرة الجبهية الأمامية البطنية (vmPFC) عند تعرضهم لمثيرات سلبية، مما يشير إلى أن الجشع يؤثر على المناطق المسؤولة عن اتخاذ القرار وتنظيم العواطف.

لكن كيف يشكّل الجشع السلوك من خلال النشاط الدماغي؟

الجشع ليس مجرد مفهوم نفسي، بل له تأثير ملموس على البيولوجيا العصبية للدماغ، خاصة في المناطق المسؤولة عن اتخاذ القرار، وتنظيم العواطف، ومعالجة المكافآت. توضح دراسات التصوير العصبي أن الأفراد الذين لديهم مستويات عالية من الجشع يظهرون نشاطاً متغيراً في مناطق الدماغ الرئيسية، مثل:

ضعف تنظيم العواطف واتخاذ القرار

    • تراجع الحساسية للعواقب السلبية: قد يتخذ الأشخاص الجشعون قرارات مالية محفوفة بالمخاطر أو غير أخلاقية لأن أدمغتهم لا تعالج الخسائر المحتملة أو الاعتبارات الأخلاقية بشكل كافٍ.
    • انخفاض مستوى التعاطف: يرتبط ضعف نشاط القشرة الجبهية الأمامية بانخفاض الوعي الاجتماعي، مما قد يفسر لماذا قد يؤدي الجشع إلى سلوكيات أنانية أو استغلالية.
    • زيادة الاندفاعية: يمكن أن يؤدي ضعف وظيفة القشرة الجبهية الأمامية إلى التفكير قصير المدى، مما يجعل الأفراد أكثر ميلاً إلى تفضيل المكاسب الفورية على حساب العواقب طويلة الأمد.

حساسية مفرطة للمكافآت والسلوك القهري

    • يُظهر الأفراد الجشعون نشاطاً متزايداً في منطقة المخطط العصبي Striatum، وهو مركز المكافأة في الدماغ، مما يدفعهم إلى مراكمة الثروة والممتلكات بشكل غير ضروري، تماماً كما يحدث في حالات الإدمان.
    • يمكن أن يؤدي هذا النشاط العصبي إلى تعزيز السلوك التنافسي، وفي بعض الحالات، إلى اللجوء لممارسات غير أخلاقية لضمان التفوق.

الخوف والقلق والسلوك الدفاعي

    • يؤدي فرط نشاط اللوزة الدماغية إلى زيادة الخوف من فقدان الثروة، مما يجعل الأفراد أكثر ميلاً إلى تكديس المال والممتلكات، مع مقاومة مشاركة ثرواتهم أو التبرع بها.
    • يرتبط الجشع بارتفاع مستويات التوتر المزمن، حيث يبقى الأفراد منشغلين بشكل مفرط بالحصول على الموارد وحمايتها.

اقرأ أيضاً: مسكنات الألم الأفيونية: قلق من تزايد عدد المرضى المدمنين في بريطانيا

المنظور الاقتصادي: هل يعزز الجشع الإنتاجية؟

العلاقة بين الجشع والإنتاجية معقدة. فمن جهة، يمكن أن يدفع قدرٌ معيّن من المصلحة الذاتية الأفراد إلى تحقيق النجاح والابتكار، ولكن من جهة أخرى، يمكن أن يؤدي الجشع المفرط إلى ممارسات غير أخلاقية وعدم استقرار اقتصادي. فعلى سبيل المثال، قد تؤدي الملاحقة المفرطة للأرباح دون مراعاة التأثيرات المجتمعية الأوسع إلى ضغوط تضخمية.

لكن كيف يؤثر الجشع على الأفراد اقتصادياً أبعد من المفهوم الشائع؟

يتجاوز تأثير الجشع الجوانب الأخلاقية ليؤثر بشكل مباشر على الوضع الاقتصادي للفرد. وعلى الرغم من أن السعي وراء الثروة قد يبدو محفزاً للنجاح، فإن الجشع المفرط قد يؤدي إلى آثار سلبية، مثل:

ضعف اتخاذ القرارات المالية

يمكن أن يؤدي الجشع إلى تشويش الحكم العقلاني، مما يدفع الأفراد إلى اتخاذ قرارات مالية غير محسوبة. فقد يندفع الأشخاص الجشعون إلى استثمارات عالية المخاطر أو مضاربات مالية دون تحليل العواقب المحتملة، مما قد يعرض استقرارهم المالي للخطر.

عادات مالية غير صحية

غالباً ما يرتبط الجشع بسلوكيات مالية غير متوازنة، مثل المقامرة المفرطة، والإنفاق غير المنضبط، وتراكم الديون في محاولة للحصول على المزيد من الثروة. يمكن أن تؤدي هذه العادات إلى تآكل الموارد المالية، مما يسبب أزمات اقتصادية شخصية.

عدم الرضا المستمر

قد يشعر الأفراد الجشعون بعدم الرضا المزمن، حيث يمنعهم سعيهم المستمر للمزيد من الاستمتاع بما لديهم حالياً. يؤدي هذا الشعور إلى ملاحقة لا نهاية لها للثروة، مما يستنزف الموارد ويؤثر سلباً على الاستقرار المالي.

القلق المالي

يمكن أن تؤدي الرغبة المستمرة في اكتساب الثروة وحمايتها إلى حالة دائمة من القلق المالي. هذا التوتر المزمن قد يؤثر على قدرة الشخص على اتخاذ قرارات مالية عقلانية، مما يزيد من احتمالات الخسارة الاقتصادية.

العزلة الاجتماعية وفقدان الفرص

يمكن أن يؤثر الجشع سلباً على العلاقات الشخصية والمهنية، مما يؤدي إلى العزلة الاجتماعية. قد يؤدي ذلك إلى فقدان شبكات الدعم وفرص التعاون، مما يحدّ من التطور المهني والفرص الاقتصادية.

الضرر بالسمعة والثقة

قد يؤدي الانخراط في سلوكيات جشعة إلى الإضرار بسمعة الفرد، مما يقلل من الثقة بين الزملاء والشركاء المحتملين. يمكن أن يؤدي هذا التراجع في السمعة إلى تقليص الفرص التجارية والتسبب في خسائر مالية.

اقرأ أيضاً: دعوات متصاعدة لمكافحة السجائر الإلكترونية والتدخين في بريطانيا

لماذا يهمنا فهم الجشع؟

من الضروري التمييز بين الطموح الصحي والجشع المدمر. فبينما يحفّز الطموح التقدم، يمكن أن يؤدي الجشع غير المنضبط إلى أضرار مجتمعية، مثل التفاوت الاقتصادي والانتهاكات الأخلاقية. علاوة على ذلك، لا تتوزع فوائد الجشع بالتساوي، فقد يخدم مصالح فردية على حساب المصلحة الأوسع، سواء العامّة اجتماعياً، بل وحتّى العامة بالمعنى الأضيق كالعائلة والأسرة، وهو الأمر الذي يجب أن يجعلنا جميعاً، كمجتمعات بشرية، في حالة قلق وتخوّف.

إنّ إدراك قدرة الجشع على تحفيز التقدم إلى جانب مخاطره المحتملة يساعد في تحقيق توازن في الطموحات الشخصية وصنع السياسات العامة. من خلال تشجيع بيئات تعزز السلوك الأخلاقي والنمو العادل، يمكن للمجتمعات استغلال الجوانب الإيجابية للجشع مع الحد من آثاره السلبية.

قد لا يكون السلوك الفردي الصحيح قادراً على لجم الجشع عند الآخرين بفاعلية كبيرة، ولكن هذا لا يمنع أنّ وضع السياسات التي تضرب الجشع وتمنع نموّه تعتمد في النهاية على التقديرات الفردية. لهذا عليك كفرد أن تتأمّل في دوافعك الشخصية وتسأل نفسك: هل يتماشى طموحك مع المعايير الأخلاقية والمصلحة العامة؟ هل بات سعيك للحصول على الكثير من كلّ شيء، أو من شيء واحد، معطّلاً لحياتك؟

اقرأ أيضاً: نظام الرعاية الاجتماعية مهدد في ظل التصرفات الحكومية العشوائية

X