مسعود كيبوانا، فنان تنزاني مبدع.. عبَّرت رسوماته ولوحاته عن بيئته المحلية الأم، بخطوط رقيقة وألوان زاهية.
إطلالاته التشكيلية رمزية المنهج، تكعيبية الملامح، واختياراته الموضوعية تراثية النزعة واجتماعية التوجهات، يجتهد كثيراً في النهوض بمستوى جيله من الفنانين التنزانيين والأفارقة، تارة عبر تكوين الروابط والجماعات الفنية، وتارة أخرى من خلال نقل الخبرات لمن هم أقل منه خبرة ودراية بأصول الرسم والتلوين، وهو في مجمل رسوماته يمزج بين مفردات وعناصر التراث الإفريقي، وتقنيات التشكيل المعاصرة والحديثة؛ لذا تجمع رسوماته بين تاريخية التناول وحداثة التكوين، وهي في ذات الوقت، لا تبتعد أبداً عن حيز وإطار مقبول ومنطقي من الواقعية الفنية والتفاصيل الدقيقة؛ إنه يرسم لوحاته بخلفية تجريدية وتركيبية معانقة للجمال والثراء والتنوع، ويعتمد أساليب عدة في التشكيل، منها أسلوب(كيراكا) البارع في تطعيم وتصحيح ألوان اللوحات بقطع الأقمشة و الملابس وتعزيز الرسوم والتصاميم باكسسوارات النفايات والقطع المهملة.
إنه الفنان التشكيلي (مسعود كيبوانا) من مواليد مدينة(متوارا) التنزانية، عام 1988، انتقل في سن الخامسة عشرة إلى العاصمة دار السلام، وهناك تنازعته الميول والرغبات، بين الرياضة والجندية إلى أن تلقى تعليمه في أحد مراكز التدريب الفني والمهني، فأحس بانتماء كبير لعالم الفن التشكيلي، وأدرك أن بإمكانه تحقيق النجاح وإثبات الذات والجدارة من خلال الريشة والألوان، وكان تأثير أصدقائه عليه كبيراً في هذا السياق، ومن خلال جهوده الخاصة ومثابرته الفنية المستمرة، وبدعم مباشر من أستاذه الفني (ماكس كاموندي)، استطاع تأسيس مساره الخاص، وتكوين جماعة فنية تنزانية تحمل على عاتقها الآن، التعريف بملامح الفن التشكيلي في تنزانيا، وبمدى ما يعانيه المجتمع الإفريقي عامة، ومجتمع الفن بصفة خاصة، من تحديات الفقر والبطالة.
كيبوانا يرى أن الفن هو الطريق إلى تحسين الواقع وتحقيق الأحلام والارتقاء بالعقل والفكر والإدراك، وقد تحدث لمجلة (أرابيسك لندن)، عن معاناة فناني إفريقيا، وعن تطلعه الراهن للالتحام مع فنون التشكيل السعودية، والاحتكاك الحضاري والفني مع كافةأنماط الإبداع الشعبي والأممي، كما تحدث عن محاور أخرى، شملها هذا الحوار.
محاورة مسعود كيبوانا مع أرابيسك لندن
حاوره: محسن حسن
-
بداية، ماذا عن واقع الفن التشكيلي ومشاكله في القارة الأفريقية؟
إذا أخذنا في الاعتبار أن مصطلح الفن التشكيلي يستخدم على نطاق عالمي واسع للدلالة على جميع الفنون البصرية كالرسم والنحت والأفلام والتصوير الفوتوغرافي، فإنني أقول لك إن حالة الفن التشكيلي في إفريقيا نابضة بالحياة، لكنها أيضاً تواجه الكثير من التحديات؛ ففي حين تتمتع القارة بتنوع كبير في المواهب وبنسيج غني من الطاقات الفنية والبنية التحتية والموارد، نجد أن كل ذلك غالباً ما يتم إعاقته ويتخلف عن الركب بفعل عدم قدرة الفنان على الوصول إلى المواد ومساحات العرض والتمويل، ولكن مع ذلك أؤكد على أن هناك روحاً مرنة وخلاقة ومتطلعة، تدفع الفنانين الأفارقة للتغلب على هذه العقبات، والمضي قدماً نحو تقديم أعمال وإبداعات فنية وتشكيلية مؤثرة تعكس ثقافاتنا وحقائقنا المتنوعة.
-
كفنان تنزاني، ماذا تفعل لمواجهة تلك التحديات و لتعزيز الفنون الجميلة ومبدعيها؟
ما أقوم به هو تشجيع ودعم أنشطة التدريب على الفن البصري، والعمل على تكوين الروابط والجماعات الفنية بهدف تعزيز و بناء الحماس الجماعي للفنانين والجماهير على السواء تجاه الإبداع التشكيلي؛ فعلى سبيل المثال، نجحنا عام 2017، في إطلاق ما يسمى بــــ (The 14 PLUS ) وهي عبارة عن مجموعة من فناني تنزانيا، استطاعت أن تحقق نجاحا كبيرا في التعبير بقوة عن الفن والتراث في تنزانيا محليا ودوليا، كما تشارك هذه المجموعة في تنظيم المعارض على كافة الأصعدة داخلياً وخارجياً، لزيادة الوعي وزيادة شعبية الفن التنزاني.
وبالإضافة إلى ذلك، أقوم بصفة شخصية بإجراء برنامج إرشادي للفنانين الشباب، وخاصة الفنانات الموهوبات، وهو ما أفتخر به؛ لأنه ساعد ثلاثة فنانين هم الآن من بين أفضل الفنانين في البلاد.
-
كفنان تشكيلي صاعد، هل تواجه تحديات في ترتيب العروض الفنية في العواصم الأوروبية مثل لندن وغيرها من عواصم العالم؟
بالطبع نحن كفنانين تشكيليين متطلعين للاحتكاك الحضاري والانتشار الفني، تكون لدينا رغبة كبيرة في التواجد بالمعارض والفعاليات الفنية المختلفة في عواصم العالم، وفي الحقيقة نحن بالتأكيد نواجه تحديات لوجيستية وبيروقراطية خلال أية ترتيبات تخص العروض الفنية في العواصم الأوروبية مثل لندن، وغالباً ما تتمثل أهم هذه التحديات في تأمين الأماكن ووسائل التنقل وحتى في إجراءات استخراج تأشيرات السفر؛ حيث تتطلب مثل هذه الأمور تخطيطا دقيقا قد يفوق قدراتنا الإدارية والمالية؛ ولكننا لا نستسلم لضعف الإمكانات، بل نرتبط بشراكات فنية مع بعض صالات العرض المحلية والإقليمية التي تؤمن بمواهبنا الفنية، وأنا مثلاً تربطني حالياً شراكة عمل فني مع معرض (Sena Art Gallery) في العاصمة الكينية نيروبي، ولابد هنا من الإشارة إلى أن المؤسسات الثقافية في بلدي تنزانيا تساعد في التغلب على الكثير من هذه التعقيدات، وذلك من خلال تقديم عروض لأعمالنا، وهو ما يعالج أي تقصير ويسد أية فجوات، ويضمن وصول فننا إلى الجماهير العالمية.
اقرأ أيضًا: الفنانة التشكيلية لولوة الحمود: أعمالي تعبر عما أؤمن به وعن صلتي بالواحد الأحد
-
بعد سنوات من بداياتك الفنية، ما الذي تطور في رسوماتك وألوانك واختياراتك التشكيلية والبصرية؟
بسبب المشاركة في العديد من التدريبات على الفنون البصرية والسفر لمشاهدة أعمال فنانين آخرين، تطورت رسوماتي بشكل كبير، و أصبحت أكثر تميزاً في الموضوع والأسلوب، وأفضل حضوراً في الإطلالة اللونية.
وعلى سبيل المثال، حظيت إحدى لوحاتي المنجزة عام 2021، والتي تحمل اسم (اليأس Despair)، بشعبية كبيرة بسبب رسالتها الواقعية والفنية والرمزية، حول تورط العديد من الشباب في إدمان الكحول والمخدرات بسبب يأسهم من الحياة نتيجة نقص العمالة وانتشار البطالة.
وهذا له دلالة كبيرة على أنني اكتسب يوماً بعد يوم الثقة في اختيار التقنيات الجديدة والموضوعات الفنية المؤثرة التي يتردد صداها لدى أصحاب الرؤى الفنية من مشاهدي لوحاتي وأعمالي.
-
هل فكرت في القيام بمعرض في المملكة العربية السعودية, التي تشهد انفتاحا فنيا كبيرا على الثقافات المختلفة؟
في الواقع هذا سؤال مثير للاهتمام فعلاً، وهو يأتي في الوقت المناسب تماماً؛ إذ أنني بالفعل أتطلع إلى التواجد الفني من خلال معرض خاص في المملكة العربية السعودية، وهذا يثير اهتمامي كثيراً، نظراً لما تبدو عليه المملكة حالياً من ازدهار لافت في المشهد الفني والتشكيلي، وفي ظني أن الانفتاح الثقافي للمملكة يمثل فرصة واعدة لمشاركة الروايات الأفريقية وتعزيز الحوار بين الثقافات.
وقد كان هذا هو محور إحدى محادثاتي التي أجريتها مؤخرا خلال معرض (سينا) للفنون، حيث أبديت رغبتي وسعادتي باستكشاف هذا التعاون المحتمل و توثيق الروابط الفنية في مثل هذه البيئة الديناميكية الثرية على أرض السعودية، وهو ما يتماشى مع رؤيتي الخاصة للفن باعتباره جسراً للتلاقي بين المجتمعات والشعوب.
-
كيف توازن بين الحفاظ على التقاليد الفنية الأفريقية ودمج العناصر المعاصرة في لوحاتك؟
يحدث ذلك أولاً، من خلال الإيمان العميق والقناعة التامة بقيمة التقاليد والعادات الأفريقية، وثانياً من خلال التركيز على استكشاف أنماط وأطياف هذه التقاليد والعادات، ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي مزج العناصر المعاصرة بحرفية فنية لخلق الرابط الفني بين التراث الثقافي لأفريقيا ومعطيات الفن المعاصر عبر العمل الفني والتشكيلي؛ فعلى سبيل المثال، تستند الأوشام التي أستخدمها غالبا في لوحاتي كديكور على أجساد الناس والأشياء، إلى ثقافة وعادات قبيلتي الموجودة في جنوب تنزانيا، ففي القرن العشرين، كان من الشائع جدا لدى الناس من قبيلة ماكوا، وخاصة النساء، أن يكون الوشم على وجوههم كجزء من الجمال والرونق، وهو ما جسدته في لوحاتي بتقنيات معاصرة ورؤية تراثية مبتكرة.
اقرأ أيضًا: المخرج السينمائي خالد الحجر لـ “أرابيسك لندن”: المهرجانات الدولية مسيسة وعلينا تصديق أنفسنا وصناعة سينما معبرة عن قضايانا وشعوبنا
-
ما الذي تهدف إلى نقله عن التجربة والهوية الأفريقية من خلال فنك ورسوماتك؟
ما أهدف إليه من خلال فني، هو التعبير عن ثراء التجربة الأفريقية وتنوعها وتشابكها أيضاً، ويعد التعبير عن مواضيع المرونة والهوية والديناميات المجتمعية ظاهرة متكررة في أعمالي ورسوماتي، لأنها تجسد الانتصارات والتحديات ورحلات المصير الأفريقي المشترك بين شعوب القارة، وباختصار أركز على هدف أساسي من وراء كل ذلك، وهو تغيير الصور النمطية حول تنزانيا وأفريقيا، وإيصال أصوات المهمشين من أبناء شعبي وقارتي ضمن سياق فني مؤثر وجذاب.
-
ولكن كيف تعالج القضايا الاجتماعية والسياسية الخاصة بأفريقيا ضمن سياق فني؟
أعالجها من خلال رؤيتي الفنية الخاصة، والتي أرى من خلالها هذه القضايا الاجتماعية والسياسية كمصدر للإلهام العاطفي، ومن ثم، فأنا أستخدم إبداعي في الفن لمحاولة المساهمة في تغيير وجهات النظر والتفكير في التحديات التي تواجه مجتمعاتنا الأفريقية.
وهناك بالفعل أعمال وعناوين جديدة أنجزتها في صورة لوحات ورسومات تطبق ذلك؛ مثل لوحات: (موكب الحياة Parade Life)، (رحلة إلى المجهول Journey to the unknown)، ولوحات أخرى عديدة، حاولت من خلالها أن أتحدى المعارك السياسية المختلفة التي ظهرت في أوقات مختلفة في مجتمعي، ضمن إطار فني وإبداعي.
-
برأيك ما أهمية اللون والإطلالة وكيف يسهمان في إيصال الرسالة الخاصة لأعمالك؟
الأسلوب واللون في فني يخلقان العاطفة والمعنى في عملي؛ وعلى سبيل المثال، أسلوبي الحالي الذي يسمى (كيراكا Kiraka)في لهجتي السواحيلية، والتي تعني (خرقة أو رقعة Patches)، أستخدم من خلاله قطعا من القماش الصلب وألصقها على قماش عادي لإنشاء شكل أو موضوع قبل الطلاء، وهذا الأسلوب غالباً ما أستخدمه كإشارة رمزية للقيود والترقيعات التي نعتمدها أحياناً عند وضع أنظمة محددة بهدف حل المشكلات.
وإجمالاً، تشير هذه الاستخدامات اللونية والأسلوبية، إلى معاني تاريخية أو ثقافية أريد استحضارها في ضمن السياق الموضوعي والمفاهيمي للوحاتي.
اقرأ أيضًا: عميدة المسرح السعودي ملحة عبدالله لأرابيسك لندن: ولي العهد هو صانع الرؤية ومبدعها.. وكل الخيارات مفتوحة لنرى تحت كل حجر مسرحاً
-
في الختام، كيف ترى دورك كفنان أفريقي معاصر ضمن سياق المشهد الفني العالمي؟ وكيف تساهم في الحوار الأوسع حول الفن والثقافة؟
كفنان أفريقي معاصر، أعتقد أن دوري في المشهد الفني العالمي متعدد الأوجه؛ فأنا أرى نفسي راويا ينسج حكايا مرئية تتجاوز الحدود و تعمل على ترابط البشرية.
ومن خلال المساهمة في الحوارات حول الفن والثقافة، آمل أن يتحدى عملي التصورات والأوهام ويعزز التفاهم المشترك مع الثقافات الأخرى في العالم، وهو ما أتمنى أن تتسع دائرته من خلال التعاون الدائم مع الكيانات والمعارض ذات التفكير المماثل والبناء، وكذلك من خلال التعليم والدعوة إلى التعارف والاحتكاك.
وعموماً أنا أسعى جاهداً لتعزيز التنوع والشمولية، وإثراء النسيج الفني العالمي بألوان الطيف الإفريقي المبدع.
اقرأ أيضًا: الباحث والفنان محمود البقلاوة يكشف أسرار حضارة دلمون وعوالم الفن التشكيلي في لقاء خاص مع “أرابيسك لندن”