مدونات
مغتربو عرب بريطانيا المسلمون.. تهميش وعزلة وعجز على الإندماج!!
نشر
منذ سنتينفي
1٬518 مشاهدة
By
Fatimaفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، انطلقت البدايات الجادة لهجرات العرب والمسلمين إلى بريطانيا، وتحديداً منذ العام 1860، وكانت الجالية اليمنية العاملة في صناعة السفن من أوائل الجاليات الوافدة، ثم توالت الهجرات حتى أصبحت المدن الإنجليزية الآن لا تخلو من تواجد عربي إسلامي قل أو كثر.
كتب: محسن حسن
ووفق التحليلات الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية، يوجد دافعان أساسيان وراء هجرة العربي المسلم واغترابه؛ الأول سياسي أمني مرتبط بمدى تعرضه للتضييق وتحجيم آرائه وحريته، والثاني اقتصادي معيشي قوامه التطلع والبحث عن مستوى أفضل من رغد العيش والحياة.
على أنه يجب التسليم بالحقائق التاريخية التي تؤكد عدم استقلالية المهاجرين العرب والمسلمين ابتداءً بالرغبة في المجيء إلى بريطانيا، وأن الحكومة الإنجليزية هي التي بادرت خلال ستينيات القرن الماضي باستقطابهم عبر حملات إعلامية رحبت خلالها بفتح الأبواب مُشرعة أمامهم؛ عرباً ومسلمين، وهو ما أكدته وأثبتت صحته مجموعة أفلام قصيرة اكتشفتها مصادفة المؤرخة والمستعربة البريطانية Diana Darke كان قد تم إعدادها خصيصا لهذا الغرض.
وبتطور الدوافع الإنسانية وفق معطيات العولمة، ظهرت أسباب جديدة لهجرة المزيد من العرب والمسلمين إلى بريطانيا كالرغبة في السفر والسياحة والاستثمار والدراسة وتبادل الثقافات والاحتكاك الحضاري ونقل الخبرات إلى غير ذلك من أسباب ودوافع تتفاوت قوة وضعفاً إذا ما قيست بالدافعين الأساسيين للهجرة أو اللجوء وهما الدافع السياسي والاقتصادي.
وفي سياق تتبع وتقييم هجرات العرب والمسلمين إلى المملكة المتحدة بما في ذلك المشكلات والعوائق والأزمات، يصعب الفصل في الغالب بين الهويتين العربية والإسلامية لامتزاجهما إلى حد كبير لدى أغلب المهاجرين، خاصة إذا تعلق التقييم والتتبع بقضايا الإرهاب والإسلاموفوبيا والصدامات الراديكالية والأيديولوجية في الغرب عموماً وفي بريطانيا على وجه الخصوص؛ ففي الغالب الأعم، يتحمل العربي المغترب تبعات الموقف الرسمي والشعبي للمجتمع الحاضن من الهوية الإسلامية، تماماً كما يتحمل المسلم المغترب تبعات الموقف ذانه من هويته العربية.
وانطلاقاً من امتزاج الهويتين في التقييم والنظر والتعاطي لدى الذهنية الرسمية والشعبية في الداحل البريطاني بالتزامن الراهن مع مشكلات الهجرة الدولية وتداعيات الهجرات غير الشرعية وطغيان الأزمات الاقتصادية المصحوبة بخروقات أمنية وجرائم نوعية تخص الجاليات الوافدة، طفت الى السطح تفاصيل كثيرة ومشكلات معقدة تواجه غالبية المهاجرين والمغتربين العرب والمسلمين في المملكة المتحدة، وهي المشكلات التي نحاول رصدها وتوصيفها والبحث عن أسبابها وحلولها في هذا العرض.
إحصائيات مربكة
تُفضي بنا دائرة البحث عن تعداد صحيح وموثوق للجالية العربية والإسلامية في بريطانيا إلى حيرة وإرباك مشفوعين بصعوبة بالغة في إيجاد المصادر وتلمس الأرقام والمؤشرات، ولكن على كل حال يمكننا العثور على جملة من الإحصائيات التقريبية التي يمكن من خلالها رسم تصور مقبول لخريطة تواجد هذه الجالية فوق الأراضي الإنجليزية، وهي كالآتي:
* وثائق مجلس التفاهم العربي البريطاني Caabu 2020 تناقلت تقديرات شفاهية بوجود جالية عربية تتراوح بين 500000 (خمسمائة ألف) وثلاثة ملايين، كما تداولت تقديرات تعداد انجلترا/ويلز 2011 بوجود قرابة 400 ألف عربي في بريطانيا، استحوذت أحياء وستمنسنر وكينسينغتون وتشيلسي في لندن على معظمهم وذلك ما بين 106.020 إلى 175.458، وقدر التعداد ذاته عرب اسكتلندا في حدود الـ10 آلاف شخص، في حين أظهرت خانة(بلد المولد) في إحصاءات أيرلندا الشمالية وجود ما يزيد على 1500 عربي هناك. ومن جهة ثانية تدوولت تقديرات منسوبة لمكتب الإحصاء الوطني البريطاني 2011 تفيد بوجود 250 ألف عربي فقط، ومما يدل على اضطراب مجمل الإحصاءات المتداولة، وجود تقديرات قديمة منذ العام 1988 منسوبة لمجلة الإيكونوميست البريطانية، تقدر عدد العرب في بريطانيا بــ 500 ألف، وفي حال كانت تلك التقديرات صحيحة في وقتها، فهذا يعني أن الجالية العربية تجاوزت هذا العدد بكثير في الوقت الراهن.
* فيما يخص أعداد المسلمين في المملكة المتحدة، تبدو الإحصاءات أكثر منطقية وثباتاً؛ فبحسب المؤشرات الرقمية لإحصاء 2021، يشكل المسلمون هناك تجمعاً دينياً قوامه أربعة ملايين مسلم تقريبا في انجلترا/ويلز/استكلندا، (بما فيهم العرب) ووفق إحصائيات أكثر تحديدا ينحصر الرقم في حدود 2.516.000 وبنسبة تقارب الــ 4.5% تقريبا من إجمالي السكان. ومن الواضح أن عدد المسلمين المهاجرين أو المتوالدين قابل للزيادة فبحسب تعداد عام 2001 كان في بريطانيا 1.6 مليون مسلم ثم أصبحوا 2.9 مليون عام 2010 وبصفة عامة، يدل تضارب الإحصاءات على تقصير مزدوج من العرب المسلمين أنفسهم أولا، ثم من الجهات المعنية بالتعداد في بريطانيا ثانيا، إلى جانب دلالة التضارب على سوء المزاج الرسمي تجاه المهاجرين عموماً.
حضور ولكن
وبتأمل الحضور العربي والإسلامي في بريطانيا، نلمح انفتاحاً إيجابياً للتكتلات المجتمعية الإسلامية ذات الجذور الآسيوية، من حيث الفاعلية والمشاركة في الحياة السياسية وجهود الاندماج والتعاطي مع البيئة الحاضنة، وكذلك الحال ولكن على استحياء بالنسبة لتكتلات المجتمع العربي ذي الأغلبية المسلمة؛ وهنا يمكننا استحضار ملامح هذا الانفتاح من خلال بعض إنجازات متحققة على أرض الواقع منها مثلاً: نجاح ثمانية عشر نائباً ونائبة من المجتمع المسلم عام 2019 في الحصول على عضوية برلمانية، وتربع (صادق خان) المسلم ذي الأصول الباكستانية على كرسي بلدية لندن، وفوز (زارا محمد) كأول امرأة اسكتلندية مسلمة تحت سن الثلاثين برئاسة المجلس الإسلامي البريطاني، واعتلاء (شيماء دلالي) كرسي الرئاسة لاتحاد طلاب جامعة لندن، وفوز آخر مشابه للعربية الصومالية(زمزم إبراهيم) برئاسة اتحاد الطلاب البريطاني، وهناك العربي (عطالله سعيد) الرئيس الفخري للمجموعة العربية في حزب العمال البريطاني، وهناك(ليلى موران) ذات الجذور الفلسطينية، والفائزة بعضوية مجلس العموم البريطاني، وعلى مستوى الأدمغة المهاجرة يشكل العرب قرابة الــ 35% من نسبة قوامها 100 ألف عالم مهاجر في كل المجالات داخل المملكة المتحدة، وفي عالم المال والأعمال يشكل العرب تواجداً لا بأس به في بنية الاقتصاد البريطاني؛ ففي لندن وحدها تشغل البنوك والمؤسسات المالية العربية حيز استثمارات كبير يقارب الــــ 200 مليار دولار، إلى جانب استثمارات أخرى لرجال الأعمال تجاوزت حاجز الــ 15 مليار دولار، هذا بالإضافة إلى حضور عربي واسع ومتنام على مستوى وسائل النشر المطبوع والمرئي والمسموع، ولكن للأسف الشديد، هذا الحضور والانفتاح الإيجابي للعرب والمسلمين في المدن والمؤسسات السياسية الإنجليزية، لم يستطع حتى الآن بلورة كيان موحد وفاعل ومؤثر في مسار القرار الانتخابي والحزبي الرسمي والشعبي داخل بريطانيا، كما لم يستطع تحصين أجيال المغتربين العرب المسلمين وعلى راسهم المولودون في بريطانيا ضد عوامل التآكل المستمر التي يتعرضون لها في الحقوق الديمقراطية والقانونية إلى جانب الحقوق الاجتماعية والمعيشية، لماذا يا تُرى؟
واقع مختلط
بالعودة إلى مجريات الأحداث على الساحة البريطانية فيما يخص العلاقة بين عرب بريطانيا أو العرب والمسلمين البريطانيين من جهة والمجتمع الإنجليزي من جهة ثانية، نجد أن السبب فيما يعانيه المغترب العربي المسلم من خفوت النجاح وتأخر الحقوق المستحقة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، يرجع في الحقيقة إلى (واقع مختلط) يتجاذبه الطرفان كلٌ من وجهة نظره الخاصة؛ فالعرب والمسلمون يطمحون إلى نيل المساواة مع غيرهم في كافة الحقوق والقوانين مع حساسية زائدة تجاه الحفاظ على هويتهم العربية والاسلامية، وبالمثل يطمح البريطانيون بحدة بالغة في الانتماء للــ(بريطانية)، إلى حماية هويتهم وقيمهم التي تربوا عليها، بعيدا عن المساس بها من قبل هويات وقوميات أخرى وافدة أو ذات جذور وافدة، و أدى هذا النهج في المبالغة لدى كل طرف إلى ظهور ما يمكن تسميته بـــــ(وجودية متنازع عليها)، ومن ثم برزت إلى السطح مشكلات وتحديات عديدة لدى الجميع في بريطانيا، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: المجتمع المهاجر (العرب والمسلمون)
يواجه العرب والمسلمون في مجتمعهم الإنجليزي الحاضن حالياً، تداعيات التوجهات والاختيارات الصارمة التي أسس لها جيل المهاجرين الأول، والتي اعتمدت على تجنب الانخراط الفاعل في ذلك المجتمع، بل وتجنيب الأبناء ذات الانخراط، وكانت هواجس السلبية السياسية والإدارية والأمنية العربية التي توارثها ذلك الجيل من وطنه الأم واصطحبها معه إلى مجتمعه الجديد، داعمة للانكباب على الذات داخل بريطانيا، الأمر الذي أدخل الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب والمسلمين في دائرة التردد والارتياب فيما يخص شرعية الانخراط الجريء في مؤسسات البيئة الحاضنة، ما نرتب عليه لاحقاً معاناة قاسية من الاغتراب والعزلة، واتهامات صريحة ومعلنة من المجتمع البريطاني للجاليات العربية المسلمة بعدم القدرة على الإندماج!!
يتواجد العرب والمسلمون في بريطانيا ضمن تجمعات أقرب إلى العرقية أو الطائفية أو القومية، كما أن تواجد الكثير منهم في المدن البريطانية الفقيرة، يفقدهم قوة التأثير الجمعي في البيئة المحيطة وعلى المستويين الشعبي والرسمي، ووفقاً لأحدث إحصاء سكاني، يعيش أكثر من 25% من مسلمي وعرب بريطانيا في نسبة ضئيلة للغاية من أفقر مناطق السلطة المحلية في البلاد، وهم من أشد الفئات تهميش على كل المستويات نظرا لكونهم خارج دائرة الضوء ولكونهم في الغالب الأعم من بين الفئات الأشد فقرا واحتياجا وإحجاما عن إظهار النقد والمطالبة بالحقوق ومخالطة الآخرين حتى من بني هويتهم في أماكن قريبة ومجاورة.
تكرس حالة التشرذم العربي في بريطانيا لمزيد من التهميش المهني والوظيفي لأبناء العرب والمسلمين هناك حيث تصبح الخيارات المتاحة أمامهم في هذا الاطار ضيقة للغاية وتكاد تكون منعدمة إما بشكل تلقائي وطبيعي أو بشكل أقرب إلى التعسف وفق توجهات خاصة لدى أرباب العمل وقد ألحقت تلك الحالة بالجيل الجديد المولود في بريطانيا مشاعر اليأس والسخط نظراً لافتقارهم إلى كافة وسائل وأسباب الاحتواء على مستوى الفرص المعيشية، جنباً إلى جنب مع تهميشهم سياسياً في ظل معانات ذويهم سلفا من فقدان ذات الاحتواء، وبالتالي انكبابهم على تدبير مواردهم العرقية المحدودة بعد أن حُرموا من أوجه الدعم الرسمي والمساندة، خاصة مع افتقار الهيئات والمنظمات العربية العاملة في بريطانيا إلى الخبرة والتطوير والتمويل فيما يخص العمل على تحسين وبلورة صورة إيجابية دافعة إلى فتح منافذ وأبواب المشاركة السياسية والحزبية والمجتمعية جنبا إلى جنب مع المنظمات والهيئات البريطانية.
تفتقد الأسر العربية والمسلمة في بريطانيا إلى امتلاك زمام التحكم في المدخلات التعليمية لأبنائهم وخاصة من الناحية الدينية نظراً لعدم اشتمال القوانين التعليمية في البلاد على ما يُلزم واضعي المناهج بمراعاة التوجهات الدينية والروحية الخاصة بانتماءات المتعلمين وذويهم، الأمر الذي يُجبر تلك الأسر على عدم إلحاق أبنائهم بالمدارس البريطانية مفضلين عليها المدارس الإسلامية الخاصة وهو ما يزيد من قسوة الاغتراب والتمييز لأجيال المتعلمين العرب والمسلمين، ويساهم في تراجعهم تعليمياً؛ حيث تمخضت قوانين التعليم البريطاني منذ قانون التعليم الأول 1870 مروراً بقوانين 1944 وحتى الآن، عن معدلات تسرب مرتفعة وتحصيل متدن في التعليم الابتدائي والثانوي وحرمان من الالتحاق بالجامعة والاقتصار فقط على المعاهد وكليات التعليم العالي بالنسبة لأبناء المسلمين والعرب، وهذه الوضعية تسبب في كثير من الأحيان صراعات إدارية بين المسلمين والمؤسسات التعليمية البريطانية، كما حدث مؤخراً في برمنغهام عندما أبدت الجالية المسلمة رغبتها في استبعاد مديري المدارس المعادين للمباديء الإسلامية.
تحيط بالتجمعات العربية والمسلمة في المملكة المتحدة حالة خوف دائم وترقب مستمر وحذر مشوب بقسوة الاغتراب، بسبب تنامي ظاهرة العداء البريطاني لكل ما هو إسلامي وعربي (إسلاموفوبيا)، وقيام عناصر اليمين المتطرف في البلاد بارتكاب إساءات وانتهاكات لا حصر لها في حق المسلمين والعرب جماعات وأفراداً، وتأتي المرأة العربية المسلمة في مقدمة الفئات الأكثر عرضة لتلك الانتهاكات وتغذي هذه الحالة، شعوراً بعدم الثقة لدى المسلمين والعرب في مستقبل البقاء الآمن فوق الآراضي البريطانية، ولا تقتصر المخاوف على مجرد تحمل العداء الظاهر والمبذول من قبل غالبية البريطانيين، وإنما يتجاوز ذلك إلى مخاوف أخرى أكثر حدة وصداما، تتمثل في وقوع هؤلاء المغتربين تحت طائلة التهم المحتملة على يد الشرطة البريطانية فيما يعرف بتهم (التنميط العنصري) وهي التهم التي تتيح للشرطة اتخاذ اجراءات استثنائية بحق العرقيات والجاليات الوافدة طبقا لتوقعات وظنون أمنية خاصة بامكانية قيامها بارتكاب جرائم، وما يعزز تلك المخاوف هو أن أكثر من 70% من عموم المحافظين في بريطانيا يؤيدون قيام الشرطة بتلك الاجراءات.
تشير مؤشرات الواقع المعيشي للمغتربين العرب والمسلمين إلى عدم انفكاكهم عن أزمات بريطانيا الاقنصادية؛ فهم إلى جانب معاناتهم كمغتربين ومن أصول عربية وإسلامية محل اتهام من البريطانيين، يعانون أيضا من أوضاع معيشية أسوأ بكثير مما يعانيه غيرهم؛ حيث يواجهون تمييزاً عرقيا في التوظيف كما أنهم يعيشون في منازل مستأجرة ومكتظة تعاني ترهلا في المرافق والضروريات، وتؤكد الإحصاءات السكانية المتداولة أنه بعد عقود من إقامة العرب في بريطانيا فإن 20% منهم فقط يمتلكون منازلهم، وهي نسبة متدنية إذا ما قيست بنسب لدى جاليات أخرى؛ فأكثر من 70% من هنود بريطانيا مثلاً يمتلكون منازلهم، وكل هذه الاعتبارات تعني أن العرب المسلمين هناك يفتقرون إلى الأمن المالي، وهو ما يجعلهم عرضة دائمة للاستغلال والتوظيف السلبي لصالح جهات وأفراد تحكمهم مصالح أمنية وأيديولوجية خاصة ومتطرفة.
ثانياً: المجتمع الحاضن (بريطانيا)
أصيب مفهوم التعددية الثقافية في المجتمع البريطاني بإرباك شديد نجم عن تضارب التقييمات المتعلقة بالمهاجرين عموما وبالمهاجرين العرب والمسلمين على وجه الخصوص، وهذا في مجمله أدى إلى تغليب الإقصاء وعدم التعايش لدى بعض شرائح المجتمع الحاضن، كما أدى إلى نوع من الميل إلى الردة الثقافية والانتصار للهوية البريطانية الأم على حساب أية هويات أخرى مهما كانت إيجابياتها كرد فعل للخوف على الوطن من الدخلاء، وهذا الإرباك تظهر مؤشراته جلية في غالبية استطلاعات الرأي البريطانية المتعلقة بالجاليات الوافدة.
لا تزال تقييمات وتقديرات رجل الشارع البريطاني للمجتمعات العربية والإسلامية ــ بما في ذلك الجاليات الوافدة ــ مبنية على معلومات منقوصة أو مشوهة أو مغلوطة، ومن هذا المنطلق تشيع لديه صورة ذهنية نمطية مفادها ضرورة الاعتقاد الحتمي بارتباط هذه المجتمعات ــ رغم فقر أغلب سكانها ــ بالثراء الفاحش المقرون بالفراغ الإبداعي والتمييز بين الجنسين والميل إلى العنف والتسلط، وهذه التقييمات والتقديرات تلعب الدور الأكبر في زيادة وتيرة العداء والكراهية لدى غالبية البريطانين تجاه الوجود العربي والإسلامي داخل البلاد.
يؤدي الدور السلبي الذي تلعبه بعض وسائل الإعلام البريطاني من خلال تبني وجهة النظر القائلة بفشل الجاليات العربية والإسلامية في تحقيق الاندماج داخل بنية المجتمع، إلى توسيع الفجوة بين شرائح المجتمع البريطاني من جهة والتجمعات العربية والإسلامية من جهة ثانية إلى جانب رفع درجات المخاطر المتوقعة من الجانبين وخاصة من جانب الفئات الشابة الأكثر تهوراً واندفاعا، وهو بدوره ما يراه غالبية العرب والمسلمين نوعا من التحريض والتعسف، خاصة مع استبعاد وسائل الإعلام ذاتها إثارة دعوى الفشل في الاندماج تجاه عرقيات وجاليات أخرى داخل بريطانيا، إلى جانب حالة الإقصاء والتهميش التي تضطر المغتربين العرب والمسلمين إلى التقوقع على الذات أو بالأحري إلى عدم الاندماج الاضطراري.
أدى الفشل المتكرر للحكومات البريطانية في إدارة التنوع الثقافي والعرقي داخل البلاد إلى حرمان الأقليات الوافدة والمهاجرة ـ ومنها العربية والمسلمة ــ من حقوقها العادلة في المساواة وممارسة الديمقراطية، وقد ساعدت أحداث مثل الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتفجيرات لندن في السابع من يوليو عام 2005 وتفجيرات مانشستر 2017 وقبلها حادث مقتل الجندي البريطاني (لي ريغبي) في أحد شوارع لندن عام 2013 على يد مسلمين من نيجيريا، إلى جانب ظهور تنظيم داعش الإرهابي وانضمام مئات البريطانيين المسلمين إليه، هذه الأحداث ساعدت على تمرير ذلك الفشل، بل وتكريسه كأداة فاعلة من أدوات العقاب الجمعي لتلك الأقليات وخاصة العرب والمسلمين، حتى أنه تم إجراء تعديلات على قوانين منح الجنسية، مال أغلبها إلى تقديم الهاجس الأمني بحيث أصبحت عنصرية التفريق بين المسلمين وغير المسلمين في بريطانيا أشد عنفا وقسوة من عنصرية التفريق بين الأسود والأبيض.
لا تزال المؤسسات البريطانية تعاني من فقر المعلومات والمفاهيم والاعتبارات الخاصة بطبيعة القضايا الإسلامية، وهي بالتزامن مع افتقارها هذا، ظلت تغذي وعي المنتمين إليها من الشباب البريطاني بتصورات خاطئة عن ولاءات وانتماءات ونوايا المهاجرين العرب والمسلمين، رغم النقص الصارخ في حصيلتها المعرفية عنهم، وبالتالي فنحن أمام بعض المؤسسات التي تكرس جهودها في طريق محفوفة بالمعارف المغلوطة عن الآخر المختلف؛ لذا بقيت صعوبة إيجاد صيغ مناسبة وفاعلة للتوافق والتلاقي ماثلة على الدوام لدى الذهنية الإنجليزية، بل على العكس من ذلك، تزيد فرص الخلاف والتنافر ويزداد العداء ويكثر مستغلوه ويدفع ثمنه المجتمع الحاضن بكل طوائفه، مع بقاء المعاناة الأكبر للأقليات الفقيرة والمستضعفة والتي قد يدفعها يأسها من احتواء الآخر لها إلى ارتكاب حماقات وربما أخطاء فادحة أو جرائم.
يستمر عموم البريطانيين في التعاطي مع التوجهات الدينية للجالية العربية والإسلامية باعتبارها مناقضة ومضادة للمثل والقيم الغربية، وقد ساعدهم على ذلك وجود أجيال من العرب والمسلمين المهاجرين تعاملوا بنفس المنطق وبذات النظرة الانفصالية، الأمر الذي ساهم في وضع عراقيل وموانع في طريق التقارب بين الجانبين، ومع استمرار تغاضي المجتمع الأوروبي عموما والبريطاني خصوصا عن الاهتمام بالإلمام الكامل بالثقافة العربية والدين الإسلامي، تظل الحقيقة الجوهرية المؤكدة والمتاحة لإمكانية التوفيق بين الهويتين غائبة وفي طي النسيان بسبب تعالي أصوات اليمين المتطرف وإلحاح ألسنته الإعلامية على وصم العرب والمسلمين جميعاً بتهمة الإرهاب، في وقت يرفض فيه حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا تمرير أي تحديد عادل لمصطلحات مثل الإرهاب أو الإسلاموفوبيا تماشياً مع التبعية البريطانية للمنهج الأميريكي في التعاطي مع قضية الحرب على الإرهاب، وهو ما يصل بالثقافة البريطانية الجماهيرية والسلوكية لأن تكون بيئة حاضنة للتعصب ونبذ الآخر.
مصارحة لازمة
وفي خضم هذه التداعيات المريرة الناجمة عن الواقع البريطاني المختلط فيما يتعلق بأحوال المغتربين العرب والمسلمين، وكذلك بطبيعة المواقف العدائية تجاههم، لابد هنا من المصارحة والتذكير بجملة الأمور والاعتبارات التالية:
ارتفاع وتيرة الهجرة الدولية يضغط بشكل كبير على حكومات الدول الحاضنة، وبريطانيا استقبلت حتى النصف الثاني من العام 2022 ما يزيد على 500 ألف مهاجر، وفي ظل تعرض البلاد لأزمة اقتصادية حادة، فإن الضغوط تزيد كذلك على الجاليات المهاجرة بشكل عام؛ لذلك يجب على حكام وحكومات الدول الطاردة للمهاجرين العمل على تحسين أوضاع مواطنيها ونبذ الصراعات العرقية الدافعة إلى استنزاف موارد تلك الدول في الإنفاق على التسلح المحموم مع رفع سقف الحريات ليشعر كل مواطن بانتماء حقيقي لموطنه وهو ما سيغنيه عن تركه واللجوء إلى بلد آخر.
النظرة السلبية للمهاجرين العرب والمسلمين في الدول الغربية عموماً وفي بريطانيا خصوصاً، يرجع في الأساس لتخلف العالم العربي والإسلامي المعاصر عن ركب التنمية البشرية وبناء المواطن الحر القادر على مواجهة التحديات، والانشغال بالسجالات والتنظير على حساب العمل والإنتاج والتعليم جنباً إلى جنب مع استشراء الفساد المقرون بالنفوذ والسلطة، وحين نعرف أن عام 2020 وحده شهد قيام 32.8 مليون شخص بالهجرة طوعاً أو قسراً من البلدان العربية، وفق تقرير حالة الهجرة الدولية 2021، وأن أكثر من 50% من الدارسين العرب لا يعودون إلى بلادهم، ندرك بحق سبب ازدراء العربي المسلم في مواطن الهجرة.
أغلب المجتمعات الغربية والأوروبية وعلى رأسها بريطانيا، ساهمت بشكل أو بآخر في تحريك طوابير الهجرة إليها من كل أقطار الكوكب، وبالتدقيق قليلاً سنعرف أن تواجد أكبر الجاليات العربية المكونة من عرب وأكراد العراق داخل المملكة المتحدة كان سببه سياسات بريطانيا الخارجية في العراق ومنطقة الخليج؛ لذا يتوجب عليك أن تتوجه باللوم إلى نفسك أولاً قبل أن تتوجه باللوم إلى المهاجر الفار بنفسه وأهله من الدمار والموت؛ لأنك ساهمت في تهيئة الظروف لشتاته وهجرته، فقط يحتاج الأمر إلى إدراك فلسفة الكوكب الواحد والمصير المشترك حتى تكون حماية السلم والأمن الدوليين حقيقة واقعة في سياسات ومنطق الدول والشعوب الحاضنة.
في حال الإنصاف وتغليب الإنسانية والمساواة وتنحية الظنون والهواجس والاتهامات المتسلطة ووجود التخطيط والاحتواء الاقتصادي للمهاجرين، فلن تشكو المجتمعات الحاضنة من كونهم يمثلون عبئاً عليها، وفي أوغندا مثالاً يُحتذى في توظيف اللاجئين والمهاجرين والنازحين في خدمة أنفسهم وخدمة الاقتصادات الوطنية للمجتمعات الحاضنة. وفي بريطانيا لن يكفي الدمج المدني للمهاجرين في تحقيق ذلك؛ إذ لابد من التمكين الاقتصادي والمهني والسياسي للمهاجر وبعد ذلك لا لوم في تطبيق القوانين عليه وإلزامه بتبعاتها.
من أكبر أخطاء المهاجرين العرب والمسلمين في بريطانيا، افتقادهم في كثير من الأحيان إلى المنهج المتدرج في التعريف بأنفسهم وثقافاتهم ودينهم، وما دعوى عدم الاندماج المسلطة فوق رقابهم إلا ثمرة من ثمار الصرامة في فرض السلوك الخاص والثقافة الخاصة والفكر الديني الخطابي عوضاً عن السلوك العملي المتدرج والمنفتح.
إزالة اللبس والمفاهيم المغلوطة لدى القطاع الأكبر من جماهير الشارع البريطاني حول قضايا العرب والمسلمين المصيرية كالقضية الفلسطينية وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والقضايا الحضارية وقضايا المرأة والدين وغيرها من القضايا، تمثل أحد أهم المحاور الكفيلة بعلاج الكثير من مشكلات العربي المسلم المغترب في هذه البلاد.. فقط يحتاج الأمر إلى نرجسية بنَاءة لإظهار القدرات والجدارات وتعويم دعوى عدم الاندماج.
توصيات ختامية
* ضرورة قيام الجالية العربية في بريطانيا بتجميع شتاتها وتوحيد صفوفها من أجل تكوين لوبي فاعل في خدمة أبنائها والدفاع عن قضاياهم وحقوقهم الشاملة وفق أسس مواكبة للقوانين والآليات المتبعة في المجتمع الحاضن، كما يجب العمل على دمج الاستثمارات الخاصة بالجالية في كيان اقتصادي قوي وموحد يتمكن من خلاله أبناء الجالية من إيجاد بدائل مهنية ووظيفية وقت الحاجة.
* ضرورة تعاون الجاليات العربية المسلمة في توثيق ورصد إحصائيات المنتمين إليها وعدم الاستسلام للتجاهل الرسمي الحادث بشأن التعداد الحقيقي، ويمكن تسهيل هذه المهمة من خلال توظيف الطاقات التكنولوجية الخلاقة لأبناء الجالية في بناء منصة إلكترونية موحدة للتسجيل.
* ضرورة استمرار التعاون المتبادل بين المؤسسات العربية ونظيرتها الإسلامية العاملة في بريطانيا من أجل مواصلة الانتصارات الحزبية والسياسية للعرب والمسلمين على مستوى المناطق المحلية والعامة مع عدم إغفال الدفع بالعناصر الشابة والأجدر من الجيلين الثاني والثالث لاعتلاء المناصب الرسمية الخادمة لقضايا التعريف بالثقافتين العربية والإسلامية.
* ضرورة إيجاد آليات مناسبة لتوعية كل مهاجر عربي ومسلم بدوره المنوط به في خدمة تفسه وأسرته وقضاياه الحقوقية والإنسانية وتبصيره بأنسب الطرق للانخراط الإيجابي في مؤسسات المجتمع البريطاني وفق قدراته ومهاراته الخاصة.
* ضرورة توظيف الفعاليات العربية والمناسبات الإسلامية في بناء جسور الثقة مع رجل الشارع البريطاني وتبصيره باتساع المساحات المشتركة للعمل والتعاون من أجل تحقيق إسهامات بناءة في خدمة المجتمع والناس بغض النظر عن الانتماءات والهويات.
* ضرورة قيام الحكومة البريطانية بتخفيف حدة الاتهامات الموجهة للجاليات العربية والإسلامية بعدم القدرة على الاندماج في المجتمع سواء عبر المنصات الرسمية أو في وسائل الإعلام مع ضرورة وجود جهود موازية لتلك الجاليات في توظيف قواها الناعمة والناجحة والترويج لها للرد على أية اتهامات بعدم الاندماج ويكفي الإشارة هنا للنجاح الرياضي للاعبين العرب والمسلمين في بريطانيا.
* ضرورة قيام بريطانيا بإعادة النظر في سياساتها الخارجية المتعلقة بالعالمين العربي والإسلامي وإيجاد صيغة أكثر توازناً للتعاطي مع قضايا منطقة الشرق الأوسط والإسراع إلى الخروج من التبعية الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية فيما يخص تداعيات المنهج المتبع في الحرب على الإرهاب، كما أن عليها أن تدرك أهمية التوظيف الاقتصادي والتنموي المتوازن للجاليات المهاجرة على أراضيها في مواجهة أزمتها الاقتصادية وتداعيات خروجها من الاتحاد الأوروبي.