في خطوة تعكس تحولاً استراتيجياً كبيراً، كشف رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر Keir Starmer عن أكبر زيادة في إنفاق بريطانيا الدفاعي منذ «الحرب الباردة». هذه الخطوة التي يراها البعض: «جريئة» في ظلّ الأوضاع الاقتصادية التي تعيشها بريطانيا، ترفع ميزانية الدفاع البريطانية إلى 2.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نيسان 2027، مع طموح لزيادتها إلى 3 بالمئة في الدورة البرلمانية القادمة. لكنّ هذا الإعلان لا يتعلق فقط بتوسيع القدرات العسكرية، بل يعكس أيضاً إعادة تموضع بريطانيا في مشهد جيوسياسي متزايد الاضطراب.
اقرأ أيضاً: ستارمر يدعو قادة العالم لتعزيز دعمهم لأوكرانيا
على حساب المساعدات الخارجية
مع تصاعد التوترات العالمية وظهور تهديدات أمنية متطورة، تقول الحكومة البريطانية أن الدفاع لم يعد خياراً قابلاً للتفاوض. يأتي هذا القرار في وقت يشهد فيه العالم نهايات الأزمة في أوكرانيا، وتزايد الحضور العسكري للقوى الكبرى، والثورة التكنولوجية التي تعيد تشكيل طبيعة الحروب. يرى الحكّام في بريطانيا أنّ عليهم السعي لضمان أن تظل قواتها المسلحة بين الأكثر تجهيزاً ومرونة في العالم.
لتمويل هذه الزيادة الكبيرة، اختارت الحكومة إعادة تخصيص الموارد عبر خفض ميزانية المساعدات الخارجية من 0.5 بالمئة إلى 0.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. هذا القرار المثير للجدل يثير حفيظة البعض، فعلى عكس من يرون بأنّ هذا يحافظ على توازن دقيق بين حماية المصالح الوطنية وإدارة الموارد العامة. يرى البعض أنه استثمار ضروري وفي الوقت المناسب في الأمن القومي، ينتقده آخرون باعتباره تراجعاً عن التزام بريطانيا التقليدي بالتنمية الدولية.
رسالة استراتيجية
يحمل هذا الإعلان أيضاً رسالة دبلوماسية قوية. فمع استعداد ستارمر للقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في واشنطن، قد يكون هذا الالتزام العسكري المتجدد تحركاً استراتيجياً للإيحاء بأنّ بريطانيا على استعداد لتأمين استمرار الدعم لأوكرانيا، الأمر الذي قد يجد صعوبات عند الأخذ بالحسبان التوجهات المعلن للرئيس الأمريكي الحالي، والذي يبدو أنّه لن يتأخر كثيراً قبل الانسحاب الأمريكي من دعم أوكرانيا.
في الوقت الذي تعيد فيه القوى الأوروبية تقييم استراتيجياتها الدفاعية، قد تمثل خطوة بريطانيا نموذجاً للتعاون الأوروبي، أو حتى لدفع حلفاء «الناتو» إلى إعادة النظر في ميزانياتهم الدفاعية، وهو الأمر الذي يبدو أنّ الكثير من الحكومات الأوروبية قد أعلنت تأييدها له.
تعمل وزارة الدفاع بالفعل على وضع خطط لكيفية توزيع المبلغ الإضافي البالغ 6 مليارات جنيه إسترليني في الميزانية. تشمل الأولويات زيادة مخزون الذخائر، والاستثمار في الأنظمة غير المأهولة المتطورة، وتعزيز العلاقة بين الدفاع والمجتمع. تسعى بريطانيا إلى تأمين مستقبل قواتها المسلحة، ليس فقط من حيث القوة العسكرية، ولكن أيضاً من حيث التفوق التكنولوجي والمرونة التشغيلية.
الانتقادات والتحديات المقبلة
لكن هذا التحول في السياسة لم يمر دون معارضة. يجادل المنتقدون بأن تقليص المساعدات الخارجية لتمويل التوسع العسكري قد تكون له تداعيات غير مباشرة، خاصة على المجتمعات الأكثر ضعفاً حول العالم. ويتساءل البعض عما إذا كان هذا القرار نابعاً بالفعل من احتياجات أمنية حقيقية أم أنه مدفوع جزئياً بدوافع سياسية لكسب تأييد فئات معينة من الناخبين. كما أعرب آخرون عن مخاوفهم بشأن التأثير المحتمل على الخدمات العامة المحلية، خاصة إذا كانت هناك حاجة لمزيد من الأموال مستقبلاً للحفاظ على هذا المستوى المرتفع من الإنفاق العسكري.
علاوة على ذلك، فإن تعزيز القدرات الدفاعية خطوة استباقية، لكن الاختبار الحقيقي يكمن في التنفيذ. إلى أي مدى سيتم تخصيص الأموال بشكل فعال؟ وهل ستؤدي الزيادة إلى تحسينات ملموسة في الجاهزية العسكرية، أم أنها ستضيع في التعقيدات البيروقراطية؟ هذه هي الأسئلة التي ستحدد ما إذا كانت هذه الزيادة التاريخية في الإنفاق العسكري ستعزز بالفعل أمن بريطانيا أو تتحول إلى تجربة سياسية مكلفة.
اقرأ أيضاً: الاستخبارات البريطانية: التخلي عن أوكرانيا يكلفنا الكثير!
لحظة حاسمة لبريطانيا
قرار زيادة الإنفاق الدفاعي بشكل كبير هو أكثر من مجرد تعديل في الميزانية—إنه إعلان نوايا. في عصر يسوده عدم اليقين، تخوض بريطانيا مقامرة محسوبة تضع الأمن في مقدمة الأولويات على حساب الدبلوماسية. سواء سيؤدي هذا القرار إلى تعزيز مكانة بريطانيا كقوة عالمية رائدة كما يقول مؤيدو القرار، أو إلى تعميق الانقسامات الداخلية والدولية كما يقول معارضوه، يبقى أمراً غير واضح. لكن المؤكد هو أن العالم يراقب، والبعض في هذا العالم يخشى من الميل إلى التسلّح الذي يبدو أنّه الاتجاه الحالي.