إجراءات صارمة لمواجهة انفلات الشارع البريطاني.. فهل تنجح الحكومة في ضبط الأمن وتقليص الجريمة؟
تابعونا على:

مدونات

إجراءات صارمة لمواجهة انفلات الشارع البريطاني.. فهل تنجح الحكومة في ضبط الأمن وتقليص الجريمة؟

نشر

في

1٬424 مشاهدة

إجراءات صارمة لمواجهة انفلات الشارع البريطاني.. فهل تنجح الحكومة في ضبط الأمن وتقليص الجريمة؟

خلال العقدين الماضيين، عانت المملكة المتحدة من تراجع الأمن الداخلي، وارتفاع معدلات الجرائم وانتشارها بين قطاعات سكانية عديدة بطول البلاد وعرضها، ورغم أن الجهود الحكومية الرامية إلى مواجهة السلوك العنيف بين البريطانيين، أثمرت خلال العقد الأخير، وتحديداً منذ 2012، عن خفض الجرائم الإجمالية بنسبة 50%، وتقليص جرائم الأحياء بنسبة تزيد على 45%، إلا أن شعور العديد من السكان بعدم الأمان، يظل هو الشعور السائد، نظراً لتقصير الأجهزة الأمنية والشرطية، في مواجهة الكثير من المخالفات الأمنية المتكررة، بحجة أنها مخالفات صغيرة وعابرة ولا يجب التوقف عندها، وهو ما يراه رجل الشارع، سبباً في تكرار الانفلات السلوكي من بعض المتسلطين تجاه المجتمع، هذا إلى جانب ما تسببه بعض السلوكيات الدارجة بين السكان، من تصاعد العنف وتدرجه بحيث يبدأ الأمر بتغافل الشرطة وعدم جديتها في تلقي البلاغات، ثم لا يلبث أن ينتهي باشتباكات ونتائج كارثية قد تصل إلى القتل.

 

كتب: محسن حسن

 

وبتأمل النشاط اليومي للبريطانيين، يتبين لنا أن الغالبية العظمى من السكان، يميلون إلى الانضباط والالتزام واحترام القوانين المنوطة بإدارة حركة المجتمع، غير أنهم يعانون من وجود قلة منهم، لا يفعلون نفس الشيء، وإنما يرتكبون من الأخطاء ما يهدد أمن غيرهم من المارة في الشارع، والزملاء في العمل، والجيران في مناطق السكنى والتجاور، الأمر الذي يُشعِر الأكثرية المحافظة من السكان، بالخوف والقلق وانعدام الأمن تجاه الأقلية المنفلتة، خاصة وأن ما يتم ارتكابه من مخالفات أمنية وسلوكية، ينتشر أكثر في مناطق تواجد قوات الشرطة؛ فعلى سبيل المثال، يعاني سكان الوسط والشمال الشرقي والجنوب الشرقي في (دورهام/ ديربيشاير/نورثومبريا)، من سلوكيات فوضوية تهدد أمنهم وتسيء لقيمهم المجتمعية، مثل: تناول المخدرات في الحدائق والأماكن العامة، وتشويه جدران المنازل والشوارع بالكتابات العشوائية، والتسكع الفردي والجماعي في أوقات وأماكن مشبوهة ومخيفة للسكان والزوار على السواء، وهي السلوكيات المتكررة التي أصبح يشكو منها أكثر من 50% من البريطانيين بشكل متكرر، وتتسبب في تعزيز شعورهم بعدم الانسجام المجتمعي، وبتراجع التوازن النفسي والوجداني المنطلق من فقدان الشعور بالأمن.

 

سلبيات صارخة للشرطة
وتكشف معاناة البريطانيين الأمنية، عن بعض السلبيات الصارخة في تقييم أداء الشرطة؛ فرغم تشابه أساليب وثقافات وخصائص المواجهة والأداء الأمني بين قوات الشرطة الإنجليزية والويلزية والقوات النظيرة في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية، إلا أن تقارير مسح الجريمة في انجلترا وويلز، تشير إلى انخفاض مستوى ثقة سكانهما في جدوى ما تقوم به الشرطة من جهود معززة للأمن، فخلال 2017 كان 62% من السكان مقتنعين بقوة أداء الشرطة، بينما تراجعت هذه النسبة حالياً لتسجل 55%، وهو ما يشير إلى أن حجم الرضا الجماهيري تجاه القطاع الأكبر للشرطة في المملكة المتحدة، في حالة انخفاض عاكس لمدى المعاناة المجتمعية من عدم الاستقرار الأمني، وهنا تجب الإشارة إلى وجود ثمان وأربعين قوة شُرَطية في عموم بريطانيا، منها ثلاث وأربعون في انجلترا وويلز، مقابل قوتين للشرطة الوطنية ذات الإدارة المستقلة في كل من اسكتلندا وأيرلندا الشمالية، وثلاث قوى أخرى للشرطة المتخصصة هي شرطة وزارة الدفاع، والشرطة النووية المدنية، وشرطة النقل.

وتشير الإحصاءات والتقارير التقيمية الأحدث خلال 2023، إلى أن أكثر من 40% ممن شهدوا وقوع جرائم من البريطانيين، رفضوا الإبلاغ عنها في ظل قناعتهم الراسخة بعدم جدية الشرطة في تلقي البلاغات، وانخفاض دورها في توجيه التهم للمجرمين؛ حيث لم تقم بتوجيه الاتهام سوى في 6% فقط من الجرائم، وفي لندن مثلاً، انهارت علاقة الشرطة بالجماهير وخاصة من النساء ومن ذوي البشرة السمراء، في حين تشهد الجرائم في بريطانيا بصفة عامة، تحولات نوعية واجبة الرصد والدراسة؛ إذ انخفضت جرائم السطو والاستحواذ وسرقة السيارات، مقابل ارتفاع نسبة جرائم العنف المنزلي واستخدام الأسلحة الحادة والقتل، كما ساهم انتشار الإنترنت في رفع معدلات الجرائم السيبرانية؛ حيث تعرض سكان انجلترا وويلز لجرائم احتيال بلغت نسبتها 39% من عموم الجرائم التي تعرضوا لها خلال 2022، وكان 61% من هذه النسبة إلكترونيا. كما ساهم انتشار الإنترنت أيضاً في ارتفاع نسبة جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال، وتكفي الإشارة هنا، إلى أكثر من ثمانية ملايين صورة صادمة نشرتها وكالة الفضاء الكندية، ووثقت من خلالها سوء معاملة الأطفال خلال الفترة من 2016 إلى 2019 فقط.

ويؤشر عدم قدرة الشرطة البريطانية على مواكبة متطلبات إقرار الأمن ومواجهة الجريمة في البلاد، لوجود قصور بالغ في تطويرها وهيكلتها وفق احتياجات ومتغيرات السلوك الإجرامي الحديث والتقني، ولعل ما كشفته هيئة التفتيش التابعة للشرطة وخدمات الإطفاء والإنقاذ، من أن بعض قوى الأمن لا تفهم حتى ما يعنيه الطب الشرعي الرقمي، رغم وجود عشرات الآلاف من الأجهزة المخزنة والمنتظرة للفحص، يؤكد هذا القصور، وخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار حجم الضغوط والجهود المضافة على عاتق رجال الشرطة، بخلاف مواجهة الجريمة، ونعني هنا الجهود المتعلقة بالطلبات والبلاغات غير الإجرامية؛ حيث يضطر رجال الشرطة لقضاء وقت كبير في الاستجابة لحوادث الصحة العقلية وحوادث المفقودين؛ فخلال 2022 فقط، استغرقت الأجهزة الشرطية ثلاثة ملايين ساعة من التحقيق والتحري لمباشرة بلاغات وحوادث المفقودين، بينما تعاملت مع ستمائة ألف حادثة تتعلق بالصحة العقلية خلال العام ذاته. ومن جهة أخرى، أصبحت عصابات الجريمة المنظمة، تجيد استغلال عدم التأهيل التقني لعناصر الشرطة، في تمرير صفقاتها لتجارة المخدرات عبر الإنترنت العميقة، الأمر الذي ساهم بدوره في ارتفاع نسبة الجرائم المرتبطة بتعاطي المخدرات في الشارع البريطاني (وخاصة المخدرات من الفئة A)، وذلك من 43% عام 2012، إلى أكثر من 52% حالياً.

ويبدو أن الضغوط الجماهيرية لرجل الشارع البريطاني فيما يخص النواحي الأمنية القاصرة، ستدفع بالحكومة البريطانية نحو اتخاذ إجراءات جديدة صارمة لاستعادة انضباط الشارع وتحجيم انتشار الجريمة، حيث تم الإعلان الرسمي عن عرض حزم متتابعة من القرارات المعنية بضبط الحالة الأمنية لمناقشتها برلمانيا ومن ثم إقرارها وتطبيقها عملياً وميدانياً، وغالباً ستركز تلك الإجراءات على النواحي الآتية:

* استئناف الأدوار الرقابية من قبل المؤسسات والرئاسات الخاصة بمفتشي الشرطة وخدمات الإطفاء والإنقاذ، واستعادة زخمها المنطفيء منذ وضعيات الإغلاق السابقة خلال مواجهة جائحة كوفيد19، مع التركيز على الارتقاء بمستوى القوة والفاعلية والكفاءة من حيث الأداء الأمني، إلى جانب الاعتماد على قياسات محدثة لتدابير الجريمة وأدوار الشرطة الوطنية، من خلال وضع نقاط قياس بيانية وإحصائية لأنواع معينة من الجرائم، إضافة لرفع وتيرة الدوريات المرئية والمستجيبة للبلاغات الهاتفية عبر أرقام 101، و 999، وهي الدوريات التي يسجل ظهورها في الأحياء الإنجليزية انخفاضاً ملحوظاً منذ ثلاثة أعوام تقريباً؛ حيث تراجعت نسبة مشاهديها راجلة في الشوارع مرة واحدة في الأسبوع أو أكثر، من 39% إلى 15% فقط.

* رفع مستوى الثقافة التخصصية لدى العناصر والضباط وقوى الأمن، وخاصة فيما يتعلق بالسلطات القانونية والتشريعية والتنفيذية المكفولة لجهاز الشرطة، والتي تعين أفراده وعناصره على القيام بالواجب الأساسي من الناحية الأمنية، وهو توفير الحماية للمواطنين من خلال اكتشاف الجريمة ومنعها، وذلك بالتزامن مع الالتزام الكامل بجعل الصلاحيات الممنوحة متوافقة مع مباديء المساواة وتشريعات حقوق الإنسان، سواء فيما يتعلق بصلاحيات التحقيق في الجرائم، أو صلاحيات إدارة المجرمين المسجلين ومنع الجريمة والحفاظ على النظام العام ومنع السلوك المعادي للمجتمع، أو صلاحيات التصرف في القضايا الجنائية خارج نطاق المحاكم.

* إحياء وتفعيل الإجراءات العملية الخاصة ببعض برامج التطوير الشرطي الماضية، ومنها مثلاً (برنامج النهوض بالشرطة)، والذي تم إطلاقه منذ 2019، ويهدف إلى الدفع بأكثر من 15 ألف شرطي إلى الشوارع، وتجنيد ما يزيد على 450 ألف ضابط شرطة، وقد تم بالفعل منذ يونيو 2021 تجنيد أكثر من 9800 ضابط من خلال هذا البرنامج، هذا بالإضافة لمواصلة الإصلاحات الخاصة بشكاوى الشرطة والانضباط، والتي حققت بعض الأهداف فعلياً؛ مثل إعادة هيكلة(اللجنة المستقلة لشكاوى الشرطة) وتحويلها إلى (المكتب المستقل لسلوك الشرطة)، وإدخال مفوضي الشرطة والجريمة في نظام الشكاوى، وتبسيط إجراءات هذا النظام، كما تم السماح بعقد جلسات الاستماع بشأن سوء السلوك (أخطر إجراءات تأديب الشرطة) في الأماكن العامة. وإسناد رئاستها لأشخاص مستقلين ومؤهلين قانونا بدلا من كبار الضباط.

* تشديد العقوبات والغرامات المالية والتأديبية الخاصة بسلوكيات الإضرار الصحي بالمجتمع، وكذلك بقضايا وجرائم المخدرات وتداعياتها، والتضييق على صفقاتها وانتشارها، وتأكيد القرارات الخاصة بحظر أكسيد النيتروز(غاز الضحك) باعتباره ثالث أكثر العقاقير المتداولة بين الشباب البريطاني في سن 16 و24 عاماً، وتمكين أجهزة الشرطة من إجراء الاختبارات المتنوعة لجميع أنواع المخدرات داخل أماكن حجز المجرمين المشتبه بهم، بما في ذلك مخدر (الاكستاسي) و(الميثامفيتامين)، مع اتخاذ الإجراءات ذاتها بشأن جحافل الشباب المتسكعين في الحدائق، وباقي المتهمين بجرائم العنف ضد النساء والفتيات والعنف الخطير والسلوك المعادي.

* زيادة تواجد الشرطة في النقاط الساخنة لاستهداف القلة القاسية والمهملة من الذين تدمر أفعالهم الأماكن العامة والمرافق التي تعتمد عليها الأغلبية الملتزمة بالقانون، جنباً إلى جنب، مع وضع عقوبات تأديب فورية من قبل الشرطة لتعويض أو إصلاح الضرر الذي يلحق بالضحايا، مع تفعيل هذه العقوبات خلال 48 ساعة من إشعار الشرطة، سواء كان الأمر يتعلق بالتقاط القمامة أو تنظيف الجرافيتي، أو غسل سيارات الشرطة خلال ارتداء البدلات أو السترات الواقية من الرصاص، إلى غير ذلك من العقوبات المشعرة بقوة القانون.

* توسيع نطاق السلوكيات الاجتماعية المحظورة والمُجرَّمة قانوناً؛ حيث سيتم استبدال قانون التشرد القديم لعام 1824، من خلال توفير خدمات دعم مناسبة للمعوزين المعرضين للخطر، كالخدمات العلاجية من الإدمان والأمراض العقلية والعصبية وخدمات الإقامة، كما سيتم تجريم التسول المنظم أمام البنوك والمتاجر وفي الأماكن العامة، والذي تستغله العصابات الإجرامية كوسيلة من وسائل جني الأموال عبر نشاط غير مشروع، وكذلك الحال بالنسبة للوضعيات والهيئات السلوكية المعيبة والمشينة كاعتراض طريق العامة وإعاقة دخولهم للمؤسسات والهيئات والشركات عبر الاستلقاء أو وضع متعلقات شخصية أو نصب خيام وخلافه.

* تيسير التحاق الفئات العمرية المختلفة بالأنشطة الرياضية والتطوعية المناسبة، من خلال تعزيز ودعم البرامج المجتمعية والشبابية في جميع الأماكن، والتي يتم تمويلها عبر الضمان الوطني للشباب والذي تبلغ قيمته 500 مليون جنيه استرليني، وبما أن 80% من المجرمين البالغين يبدؤون بارتكاب الجرائم في سن مبكرة، فسيتم توسيع آليات عمل برنامج (Turnaround) المعني بدعم وتأهيل 17 ألف طفل في طريقهم لبلوغ نظام العدالة الجنائية، وهو ما سيؤدي مجملاً إلى أن تتمكن جميع الفئات المجتمعية من التمتع بحقوق رعاية متكافئة بحلول 2025.

وفي الختام، وفي ظل هذه الإجراءات الشاملة والصارمة وغيرها مما لم يتسع المجال لسرده، وتباشره الحكومة البريطانية حالياً، نأمل أن يستعيد الشارع البريطاني كافة الأنشطة الأمنية والشُرطية المفتقدة منذ أكثر من عقد من الزمان، وكلنا تطلع لإدراك مصداقية الوعود الرسمية الممنوحة للجماهير، والتي تؤكد ظهور نتائج وتحسينات أمنية كبيرة ستنتج عن هذه التدابير الحاسمة، خلال الأشهر القادمة، حيث ستستعيد جميع أنحاء ومناطق انجلترا وويلز، نظامها المُحكم، وهدوءها الكلاسيكي المعتاد، وسيشعر رجل الشارع، بجدوى الإصلاح الأمني عبر مفردات وملامح واضحة: قوامها أعداد كافية من رجال الشرطة، وجرائم أقل، وشوارع أكثر أمناً.

إترك تعليقك

إترك تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

X