السعودية
السعودية تطرق أبواب التنوع الاقتصادي بإصلاحات طموحة تكسر الجمود وتترجم الأهداف الرامية إلى الخروج من الريعية النفطية
نشر
منذ 11 شهرفي
644 مشاهدة
By
Baidaظل الاقتصاد الوطني للمملكة العربية السعودية على مدار عقود ماضية، أسيراً للريع النفطي والأحادية الاستثمارية والتجارية والتصديرية، حيث لم تكن التطلعات إلى تنويع الاقتصاد حاضرة بقوة على الساحة المحلية والإقليمية والدولية، ولكن بمرور الوقت، وظهور الحاجة الماسة والراهنة إلى البحث عن بدائل اقتصادية تتيح فتح آفاق أرحب وأوسع للإنتاج الزراعي والصناعي والخدماتي إلى جوار النفط، بدأت تتبلور رؤية سعودية خاصة لدى الأمير محمد بن سلمان تعتمد التفكير خارج الصندوق، وكان ذلك من خلال رؤية المملكة 2030 التي لم يتوقف زخمها المطلق والباحث عن مكان الصدارة في كافة القطاعات والمجالات وليس في قطاع النفط والطاقة وحده؛ حيث اعتمد الأمير مخططاً اقتصادياً إجرائياً مدته عشر سنوات، كان هدفه الأول (التنويع الاقتصادي) بمعناه الشامل والمتطور، وهو ما بدأت تتكشف نتائجه الإيجابية من خلال المؤشرات الاقتصادية السعودية الأحدث خلال نهايات 2023 وبدايات 2024.
كتب: محسن حسن
تحول إنتاجي في المملكة
من بين المؤشرات والنتائج الإيجابية المشار إليها، ما تشهده المملكة حالياً من تحول نوعي في الإنتاج غير النفطي؛ فمن خلال خطط الإصلاح الاقتصادي التي تبنتها البلاد منذ إطلاق استراتيجية 2030 وحتى اللحظة، شهدت بنية الاقتصاد السعودي ضخ استثمارات ضخمة بمليارات الدولارات لإنجاز التنوع الاقتصادي عبر مشاريع عملاقة زراعية وصناعية وتجارية، كان تركيزها الأكبر على استغلال المساحات الصحراوية الشاسعة لتحقيق ذلك التنوع، وأيضاً لتحويل الأجواء الصحراوية إلى بيئات حاضنة للإنتاج، تساعد على منح المزيد من المميزات الاستثمارية وفرص التصدير المتنوع، جنباً إلى جنب مع الاهتمام بمجالات مضافة للتنوع، كالمجال السياحي والصناعي واللوجيستي ومجال النقل والتجارة الرقمية، ومجال الإنشاءات والمشاريع الريادية الصغيرة والمتوسطة، وهو ما نتج عنه بلوغ متوسط نمو الأنشطة غير النفطية نسبة 4.5%، وارتفاع نسبة إسهام الصادرات غير النفطية الصناعية والزراعية والاستثمارية في الإيرادات الوطنية إلى 35%، وهي النسبة التي يُتوقع لها المزيد من الارتقاء والزيادة خلال السنوات القادمة؛ حيث يمكن أن تتجاوز الـــ 50% بحلول 2028.
مكانة خليجية
وكنتيجة منطقية للنهج السعودي الجديد في التحول نحو الإنتاج الاقتصادي المتنوع وغير النفطي، فقد أصبحت المملكة العربية السعودية تحتل مرتبة متقدمة ضمن أكثر الدول الخليجية نجاحاً في تنويع اقتصادها، إلى جانب الإمارات العربية المتحدة، وهو ما دعا صندوق النقد الدولي، إلى الجزم بتوقعات مستقبلية تؤكد استحواذ الاستثمارات السعودية غير النفطية على مكانة قوية تتيح لها قيادة النمو في البلاد، خاصة مع زيادة الحوكمة والمركزية المبدعة على مستوى التعاطي الإيجابي مع شبكة الاستثمار الأجنبي المباشر عالمياً، وأيضاً مع ما تشهده المملكة من تحسن كبير ومتسارع في الإنشاءات وبيئة الأعمال المساعدة على جذب الاستثمارات الوافدة والمباشرة، وهذه التوقعات الإيجابية الصادرة عن صندوق النقد الدولي بخصوص مستقبل التنوع الاقتصادي في السعودية، تستند إلى تقييمات جادة ومدروسة لطبيعة المكانة الاقتصادية المستهدفة من قبل خطط الإصلاح السعودي الشاملة، والتي جمعت بين التحول الاجتماعي والثقافي للعقلية السعودية المعاصرة نحو الانفتاح والتحرر من القيود المكبلة للطاقات الإنتاجية والإبداعية من جهة، والتوازن السياسي والاقتصادي والتنموي المدعوم ببرامج مالية طموحة من جهة ثانية.
الرؤية والتقييم
وبحسب البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة المالية السعودية، فإن إنجازات ومستهدفات وتطلعات رؤية المملكة 2030 تمر منذ أكثر من عام ونصف العام وحتى الآن، بمرحلة تقييم دقيقة لكافة مخططاتها واستراتيجياتها بعد أن اجتازت نصف الطريق إلى نهايتها، وذلك من أجل تعزيز ما يستحق التعزيز والدعم، وتعديل ما يحتاج إلى تعديل، على أن هذا التقييم، يتجه غالباً إلى غربلة مكونات ومحاور الاستراتيجية الإصلاحية للرؤية، بحيث يتم التدقيق أكثر في مسألة إحداث التوازن المطلوب في استغلال الموارد المتاحة للحصول على أكبر العوائد المالية والنواتج الاقتصادية الإيجابية، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة ترتيب الأولويات الخاصة بنوعية المشاريع المراد إنجازها في النصف الثاني من الرؤية، تجنباً لازدحام الأجندة التنفيذية بمشاريع كثيرة ضمن فترة زمنية قصيرة، الأمر الذي قد يترتب عليه ارتفاع كبير في نسبة التضخم والأسعار إلى جانب الاضطرار إلى استيراد الكثير من المواد اللازمة لتلك المشاريع، ومن جهة أخرى، سيضع التقييم أولوية قصوى لدراسة الاحتياجات الوطنية من القروض الدولية والمحلية، بحيث يكون هناك توزان بين سقف هذه القروض مقارنة بحجم الناتج المحلي الإجمالي.
وفي الحقيقة، تعد مرحلة التقييم هذه ذات أهمية كبيرة؛ لأنها ستضع النقاط فوق الحروف، بالنسبة لاستئناف إنجازات الرؤية وفق المخطط له، خاصة فيما يتعلق بمسار التنويع الاقتصادي، والذي نجحت خلاله المملكة في رفع نسبة إسهام الإيرادات غير النفطية، من حوالي 18.9% أو أكثر بقليل خلال سنوات ماضية، إلى قرابة الــ 35% في الوقت الحالي.
اقرأ أيضًا: حلول النقل والخدمات اللوجستية: ركيزة أساسية لتحقيق رؤية السعودية 2030
مؤشرات إحصائية
وبالنظر إلى المؤشرات الإحصائية والرقمية الإجمالية المتداولة حول تطورات الاقتصاد السعودي، نجد أن الناتج المحلي الإجمالي قفز بنسبة تفوق الــ 65% خلال الفترة من 2016 إلى 2023، بحيث يتم تقديره حالياً بنحو 4.1 تريليون ريال، وهي قفزة غير مسبوقة في تاريخ نمو هذا الناتج، والذي سجل نسبة نمو حقيقي مقدارها 4.4%، وقد كان لإسهام الأنشطة غير النفطية ونموها، الدور الأكبر في تحقيق هذه النسبة.
ووفق ما تم إعلانه من موازنة العام 2024، فإن حجم إيرادات المملكة يبلغ 1.172 تريليون ريال سعودي، مقابل حجم نفقات يبلغ 1.251 تريليون ريال، في حين نجد أن حجم الدين العام السعودي يبلغ حوالي 1.103 مليار ريال سعودي، وهو ما يوزاي 25.9% من إجمالي الناتج المحلي، ومن المتوقع أن يلعب الاقتصاد غير النفطي دوراً بارزاً في المرحلة المقبلة، من حيث تنوع روافده وأنماطه وقطاعاته كالقطاع السياحي والرياضي والصناعي، خاصة مع إصرار المخطط الاقتصادي السعودي، على النهوض بكافة القطاعات الاقتصادية الواعدة، والارتقاء بحجم الصادرات السعودية غير النفطية، فعلى سبيل المثال، تستهدف رؤية 2030 الوصول بعدد السائحين والزوار إلى أكثر من 140 مليون زائر داخلي وخارجي، إلى جانب تعزيز جهود الاستثمار الرياضي، وفي المقدمة منها مشروع تخصيص الأندية الرياضية وتبعاته، جنباً إلى جنب، مع عدم إغفال التطبيق العملي والميداني لبنود وتوجهات(الاستراتيجية الوطنية للصناعة) والتي تقتضي تنويع وتطوير الإنتاج الصناعي ورفع إسهامه في الناتج المحلي الإجمالي، والوصول به إلى أكثر من 890 مليار ريال عام 2030.
فرص التنوع
وبالعودة إلى ما قبل إطلاق استراتيجية المملكة 2030، سيتبين لنا أن السعودية ظلت فترات كبيرة تعاني من فشل خططها واستراتيجياتها الهادفة إلى التحرر من أسر الريع النفطي، فمنذ العام 1937 وهي الفترة التي تم اكتشاف النفط الخام السعودي خلالها بتدفقات صالحة للتجارة والتصدير، وظلت تجارة النفط هي المصدر الأول والوحيد للإيرادات المالية للمملكة بنسبة تفوق ال75%، لم تنجح خطط التنويع الاقتصادي الخمسية التي انطلقت في سبعينيات القرن العشرين وعلى مدار نصف قرن، في تحرير البلاد من هيمنة النفط على بنية الناتج المحلي الإجمالي، ثم بانطلاق رؤية 2030 الإصلاحية، حدث التحول الكبير في النظرة السعودية الاقتصادية، والتي أدركت مخاطر التقصير في جهود التنوع الاقتصادي، خاصة في ظل تذبذبات أسعار النفط، ووجود سقف زمني مستقبلي لموارده، وبالتالي، تم التركيز على مهمة استنهاض كافة الموارد غير النفطية المتاحة، وفي كافة المجالات كقطاع التعدين والقطاع السياحي وأنشطة الترفيه والرياضة ومجال التكنولوجيا والاتصالات، وهو ما اتضح معه وجود فرص عالية الجودة لتحقيق التنوع الاقتصادي المنشود، فعلى سبيل المثال، يمكن لقطاع التعدين أن يصبح القاطرة لتحقيق التنوع غير النفطي،خاصة مع ما تمتلكه البلاد من ثروات معدنية هائلة وكامنة وقابلة للتوظيف والاستغلال؛ فبحسب التقييمات الراجحة تمتلك السعودية مساحات شاسعة تتجاوز 650.000 كم2 جميعها تحتوي على ثروات معدنية هائلة لقرابة الـ 50 نوعاً معدنيا، من بينها ما يسمى بالــ(المعادن الحرجة)، وربما تتجاوز القيمة المالية لهذه الثروات أكثر من 1.2 تريليون دولار أمريكي، وهو ما يمكن أن تحصل من خلاله المملكة على البديل الاقتصادي والمستقبلي المناسب للنفط، إلى جوار باقي المجالات والأنشطة غير النفطية.
اقرأ أيضًا: السعودية تُسهل دخول عشاق الألعاب الإلكترونية: تأشيرة إلكترونية لحضور كأس العالم!
بريق الذهب
وعلى ذكر الثروات المعدنية ودورها في إنعاش الحركة التصديرية وتعزيز التنوع الاقتصادي بالمملكة العربية السعودية، يأتي الاكتشاف الأحدث لمعدن الذهب خلال نهايات 2023 وبدايات 2024؛ حيث تم العثور على مخزون كبير من هذا المعدن البراق والنفيس في بعض مناطق محافظة الخرمة بمكة المكرمة، وذلك على امتداد أكثر من 95 كيلو متراً جنوب منجم (منصورة ومسرة)، وفق ما أعلنته شركة التعدين العربية السعودية (معادن)، والتي أكدت وجود نسب ترسيب عالية الجودة من عنصر الذهب على بعد أكثر من 375 متراً من المنطقة المذكورة، وبالنظر إلى أن كميات الذهب المستقرة في منجم الخرمة المشار إليه، يتجاوز 6.75 مليون أوقية حتى بدايات 2024، في حين تبلغ طاقته الإنتاجية أكثر من 245 ألف أوقية سنوياً، فإن المتوقع أن الكميات الجديدة المكتشفة ستساهم إلى حد كبير في التركيز أكثر على استخراج هذا المعدن الحيوي وغير المستغل في البلاد، وهو ما سيساعد بدوره على إنجاح خطط واستراتيجيات التنويع الاقتصادي التي أطلقتها المملكة مع رؤية 2030، والتي تستهدف رفع نسبة إسهام قطاع التعدين في الناتج المحلي الإجمالي للسعودية، وتعزيز دوره في تطوير الاقتصاد الوطني، وزيادة حجمه إلى 65 مليار دولار، بحيث ترتفع نسبة إسهام القطاع الصناعي في الناتج الوطني إلى أكثر من 32.5% بحلول 2030.
ضمانة التنوع
ومما يزيد من فرص المملكة العربية السعودية في إدارك النجاح والتفوق والإنجاز فيما يتعلق بتحقيق التنوع الاقتصادي والخروج من أمراض الريع النفطي وتهديدات التقلبات المستمرة في أسعار النفط، شمولية التعامل السعودي مع قضايا وخطط الإصلاح الاقتصادي؛ فإلى جانب التطوير الفني واللوجيستي للقطاعات الحيوية في البلاد، والذي يسير على قدم وساق، تلعب استراتيجية الاحتواء السعودي وأنماط القوى الناعمة المعززة للتطوير والاستقرار والأمن، دوراً بالغ الأهمية في الوصول بالأهداف الإصلاحية إلى مبتغاها؛ فعلى مستوى السياسة الخارجية والدولية، تؤدي مبادرات الرياض الناعمة والمهادنة مع محيطها الإقليمي إلى كسر شوكة العداوات التاريخية وترويضها في اتجاه تحقيق المصالح القومية الرامية إلى إقرار الأمن الإقليمي وتوفير المناخ اللازم لعمليات التحول والتقدم والنهوض الاقتصادي والاجتماعي والأمني، وكانت التطورات الإيجابية الأخيرة بين الرياض وطهران ودمشق، مثالاً واضحاً على ذلك، وعلى مستوى التحولات الاستراتيجية والجيوسياسية الداخلة ضمن سياق العلاقات الدولية، يؤدي حرص القيادة السعودية على تحرير القرار الاقتصادي الوطني من تأثير هيمنة الحليف الأمريكي في المنطقة والعالم، إلى فتح آفاق جديدة مع قوى اقتصادية كبرى كالصين وروسيا، وهو ما يساهم بقوة فيإيجاد صيغ متوازنة في علاقات السعودية مع جميع الأطراف، بحيث تحكمها المصالح الوطنية المتبادلة، بعيداً عن ضغوط الابتزاز وانتهاك السيادة.
وهذا كله يشكل ضمانة قوية وثابتة للإصلاح الاقتصادي المستدام، كما يعد من قبيل الركائز الراسخة التي تتطلبها المرحلة القادمة في الإصلاح الاقتصادي السعودي الباحث عن الانفتاح التجاري والمالي والاستثماري، كأساس ضروري ومنطقي لتحقيق أهداف التنوع الاقتصادي والوجود الإنتاجي الفاعل محلياً وإقليمياً ودوليا.
اقرأ أيضًا: المملكة العربية السعودية في طريقها لتصبح عاصمة البناء العالمية: استثمارات ضخمة تدفع النمو المتسارع