لم يكن من السهل تحويل عاصمة غربية لتكون مركزاً لصناعة التمويل الإسلامي بالمهمة السهلة، وهو ما استدعى أن يكون وراء هذا الأمر شخصية فريدة حملت في جعبتها علواً في الهمة وسعة في الأفق، وروحاً مبادرة وحسن تدبير، إنه رجل الأعمال السعودي صالح كامل الذي أبهر العالم بذكائه الاستثماري النوعي.
كانت بداية الرائد السعودي متواضعة، ولكنه استطاع تشييد امبراطورية مال مدعومة بفكر استراتيجي نادر، واستطاعت مجموعة دلة البركة أن تنشط باستثماراتها الخارجية في عدد من القارات، وفي كل مكان كان هناك رحلة من التحدي وقصة صمود في مواجهة الصعاب.
كان حضور الريادي السعودي عبر مجموعته الاستثمارية في لندن فاعلاً، وقدّم مفهوم التمويل الإسلامي كنوع من الحلول الاستثمارية التي تسهل انخراط أصحاب رؤوس الأموال من المسلمين في بيئة الاستثمار البريطانية، وافتتحت مجموعة دلة البركة التي تولت إدارة التمويل الإسلامي أكثر من 600 فرعاً لها في ثلاث قارات، وكان حضوره في لندن مميزاً ففي أحد المؤتمرات ألقى كامل كلمة أمام الأمير تشارلز والذي كان في ذلك الوقت ولياً للعهد، وذكّر خلال الكلمة بمحاضرة كان الأمير تشارلز قد ألقاها في سنة 1997 وتحدّث خلالها عن ثقافة الدين الإسلامي التي ينبغي للعالم أن يستنير بها، لأنه استطاع أن يخلق مجتمعاً يتعايش ويتكامل مع الآخر، بهدف تحقيق رخاء ورفاهية الإنسانية جمعاء.
صالح كامل الفارس السعودي المقدام، ترجل عن صهوة الحياة في الـ18 من مايو 2020 عن عمر يناهز 79 عاماً، قضاهاً في أن يتفنن بكونه رجلاً استثنائياً، بدأت رحلته في عالم المال الدولي مع مجموعة دلة البركة، والتي أبصرت النور في عام 1969، وهي مصنفة بين أكبر خمس شركات سعودية، وامتدت أنشطتها في منطقة “المينا” (MENA) الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وآسيا وأوروبا بشكل أساسي.
الأمر الذي دفع المؤلفين الغربيين “السير وليم باتي” و”باتريشيا لانكستر” إلى جمع تفاصيل حياته المثيرة وإصدارها في كتاب حمل عنوان؛ ذات مرة في مكة – قصة صالح كامل صاحب رؤية ورجل محبٌ للخير.
كانت بدايات صالح كامل بين مكة وجدة، وهو من مواليد عام 1941 وابن عائلة متوسطة الحال عانت من ضغوط الحياة، لدرجة أنّ راتب والده كان ينفذ قبل مطلع الشهر وكانوا يعيشون على الاستدانة من الجوار، لكن قلب الفتى نشأ على المثل القائل، إذا لم تجد طريقاً فاصنع واحدة، وبعمر الثالثة عشرة استورد أول بضاعة لأطفال الحي المهتمين بأنشطة الكشافة، وكان يرصد احتياجات المحيط ويعمل على تلبيتها بطريقة مبتكرة، فلفت الشاب الصغير الأنظار إليه، وحصل على تكريم من الملك فهد شخصياً، والذي كان وزير التعليم في تلك الأيام.
خاض كامل مبكراً في عالم الإعلام والسياسة، ومع إتمام دراسته في جامعة الملك سعود تولى منصباً في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ثم انتقل إلى وزارة المالية وهناك برزت الموهبة المالية للشخصية الفريدة.
كان أسلوب عمل النابغة السعودي يتلخص في رصد المشكلات التي يعاني منها المجتمع والعمل على حلّها، على سبيل المثال، التفت كامل إلى أن خدمة البريد تقتصر على المدن الكبرى في المملكة، فأنشأ خدمة البريد السريع لتشمل كامل الجغرافيا السعودية، وأطلق عليها اسم مؤسسة دلة، واشترى بمدخراته 30 سيارة تويوتا ووضعها في خدمة المؤسسة، ونقل ملكية السيارات إلى الموظفين لتقليل نفقات الصيانة.
انتقل بعد ذلك نحو عقود الصيانة والتشغيل للمطارات المدنية، وكانت البداية في المملكة ثم امتد النشاط إلى 44 دولة حول العالم مع كادر وصل عدده إلى 85 ألف موظفاً.
ومع كل هذه النجاحات وتضخم الكتلة المالية لاستثمارات كامل صالح، كان يلتزم برغبة والده في التمسك بأحكام الشريعة الإسلامية، ومن أمثلة ذلك تبني صيغة المضاربة في التعاملات البنكية، والتي حققت أرباحاً أكبر مقارنة مع الصيغ الأخرى، ما جعل المستثمر السعودي صاحب أسلوب خاص يفرضه أينما حل ويكسب فيه احترام الجميع.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل شجع المغامر السعودي النقاشات المالية الخاصة بنظريات التمويل الإسلامي، إلى جانب التعريف بالاقتصاد الإسلامي حول العالم واستعراض مفاصله الحيوية، ليكون صاحب رؤية إبداعية واعية استطاعت أن تستقطب كبريات الاقتصادات الدولية للانخراط في التمويل الإسلامي وهو ما حدث مع لندن على يد هذا الرائد السعودي الذي شكل علامة فارقة في حياته، وترك أثراً عميقاً في بنية الاقتصاد الدولي بعد رحيله.