قطارٌ سريع تستقله تقنيات الذكاء الاصطناعي في زمننا، وتفتح آفاقاً جديدة للاقتصادات والمجتمعات بأسلوب يعزز الإنتاجية ويزيد من ابتكار المنتجات والخدمات، ومع أهمية هذه التقنيات، تتباين الآراء بين المخاوف من فقدان الوظائف، والتأكيد على أن تأثيرها سيكون محدوداً، ما يجعل من الضروري فهم كيفية الاستفادة من هذه الإمكانات وفهم سلبياتها قبل إيجابياتها، مع ضمان انتقال آمن للجميع.
الذكاء الاصطناعي وتأثيره على سوق العمل البريطاني
على مدار السنوات الخمس الماضية، ظهرت توقعات عدّة في المملكة المتحدة بشأن فقدان أو تغيير الوظائف بسبب تقنيات الذكاء الاصطناعي، ففي تقرير بحثي صدر العام الماضي، سلّط معهد توني بلير للتغيير العالمي الضوء على التأثيرات الاقتصادية المتوقعة للذكاء الاصطناعي في المملكة المتحدة، مشيراً إلى احتمال أن يحلّ الذكاء الاصطناعي محل ما بين مليون وثلاثة ملايين وظيفة خلال العقدين المقبلين.
وأشار التقرير إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يصل ذروته في إزاحة الوظائف، مع إمكانية تأثيره على مئات الآلاف من الأدوار، ورغم هذا التحدي، فإن العديد من هذه الوظائف سيتم استيعابها من خلال الفرص الاقتصادية الجديدة التي ينشئها الذكاء الاصطناعي، فمع إمكانية زيادة الإنتاجية بشكل ملحوظ – حيث يمكن أن يوفر للعاملين في القطاع الخاص ما يصل إلى ربع وقت عملهم- يتوقع أن يعزز ذلك نمو الناتج المحلي الإجمالي ويخلق طلباً على أدوار أكثر تعقيداً وبفضل تبني هذه التقنية، قد يرتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1٪ خلال خمس سنوات، وقد يصل إلى 6٪ بحلول عام 2035، ما يفتح آفاقاً جديدة للنمو.
تقرير آخر نُشر في أكتوبر 2021 وكان هدفه الإجابة على سؤالين رئيسين: أولاً، هل ستحل تقنيات الذكاء الاصطناعي محل أعداد كبيرة من العمال خلال العقد المقبل؟ وثانياً، ما مدى حجم الاضطراب المتوقع في أسواق العمل؟
ركز البحث على التأثيرات التوزيعية المحتملة للذكاء الاصطناعي على التوظيف في المملكة المتحدة خلال السنوات الخمس والعشر والعشرين القادمة، وقد وجد أن 7% من الوظائف معرضة للخطر خلال السنوات الخمس المقبلة، بينما ترتفع النسبة إلى 18% بعد 10 سنوات، وتصل إلى أقل بقليل من 30% بعد 20 عاماً، تعتمد هذه التقديرات على آراء الخبراء وبيانات مكتب الإحصاءات الوطنية.
تثار مخاوف كبيرة بشأن الذكاء الاصطناعي واحتمالية إزاحته الوظائف والأتمتة، حيث تتفوق هذه التقنيات في أداء المهام الروتينية والمتكررة بكفاءة تفوق البشر، ما يعرض وظائف مثل إدخال البيانات وخدمة العملاء لخطر الأتمتة، وبالتالي يزيد من البطالة وانعدام الأمن في الدخل.
إلى جانب ذلك، تواجه أنظمة الذكاء الاصطناعي مخاوف من التحيز والتمييز، إذ يمكن أن تعيد إنتاج التحيزات المجتمعية القائمة، ما يؤثر سلباً على ممارسات التوظيف، ويتطلب ضمان أخلاقيات هذه الأنظمة تقييماً مستمراً لتفادي تعزيز التفاوتات الاجتماعية.
أيضاً، يمكن أن يؤدي إدخال الذكاء الاصطناعي إلى تأثيرات نفسية عميقة على العمال، مثل القلق من فقدان الوظائف وتراجع التفاعل البشري، ما يؤثر على شعورهم بالهدف والرضا الوظيفي، لذا، يجب أن تكون رَفَاهيَة العمال المتأثرين بتطبيق هذه التقنيات أولوية للشركات وصناع السياسات.
بالمقابل، يوجد مخاوف أهم مما سبق، فمن الممكن أن تنتج خوارزميات الذكاء الاصطناعي نتائج غير دقيقة أو متحيزة، ما يؤدي إلى تمييز أو معلومات مضللة في اتخاذ القرارات، كما يفتقر العديد من نماذج الذكاء الاصطناعي إلى الشفافية، ما يجعل الأفراد غير مدركين لكيفية عمل هذه الأنظمة أو ما إذا كانت حقوقهم قد تأثرت، إضافة إلى ذلك، يمكن أن ينتج الذكاء الاصطناعي التوليدي مواد محمية بحقوق الطبع والنشر، ما يثير مشكلات تتعلق بحقوق الملكية الفكرية.
وعلى الرغم من كل هذا السواد المحيط بالموضوع، لا بد من وجود بصيص أمل، ومن الناحية الإيجابية فقد أدى دمج الأتمتة في مختلف الصناعات إلى ظهور فرص تحويلية جديدة وتعزيز الإنتاجية، من أبرز تأثيراته على التوظيف هو قدرته على أتمتة المهام الروتينية، ما يسمح للعمال بتوجيه جهودهم نحو أنشطة مبدعة أكثر وذات قيمة مضافة.
إضافة إلى ذلك، تسهم التحليلات المدعومة بالذكاء الاصطناعي في تحسين عملية اتخاذ القرارات، ما يتطلب وجود متخصصين مهرة لتفسير البيانات ووضع استراتيجيات فعالة، كما أدى هذا التأثير إلى خلق أدوار جديدة في مجالات تطوير وصيانة الذكاء الاصطناعي، وزاد الطلب على المهنيين في مجالات التعلم الآلي وعلوم البيانات.
كذلك، تُحسن التقنيات مثل برامج المحادثة الآلية والمساعدين الافتراضيين تجرِبة العملاء، عن طريق توفير دعم فوري وتوصيات شخصية، ما يعزز رضا العملاء ويدعم فرص العمل في القطاعات الموجهة نحو الخدمات.
ومن الأمور الواجب ذكرها، طريقة تعامل الحكومة البريطانية مع الذكاء الاصطناعي وأهميته بالنسبة لها، مؤخراً، أطلق السير كير ستارمر، رئيس وزراء المملكة المتحدة، خطة تهدف إلى تسخير الذكاء الاصطناعي في القطاعين العام والخاص، مع أمل أن تسهم في خفض التكاليف وتعزيز النمو الاقتصادي في المملكة المتحدة، تتضمن هذه الخطة، التي كتبها رجل الأعمال مات كليفورد، خمسين توصية وافق عليها ستارمر، بهدف جعل بريطانيا “واحدة من القوى العظمى في مجال الذكاء الاصطناعي” وتحويلها إلى “صانعة للذكاء الاصطناعي” بدلاً من أن تكون مجرد متلقية له.
ومع ذلك، حذّر الخبراء من وجود عقبات كبيرة قد تواجه هذه الجهود، بدءاً من الوصول إلى الطاقة والقدرة الحاسوبية، وصولاً إلى المخاوف العامة المستمرة بشأن حوكمة التكنولوجيا سريعة التطور والاستخدام المفرط للبيانات الخاصة.
ووفقاً للخطة، أعلنت الحكومة البريطانية إلغاء مشروع الحاسوب الفائق Exascale، الذي كان من المقرر أن يُبنى في جامعة إدنبرة بتكلفة 800 مليون جنيه إسترليني، واستبداله بمشروع جديد يركز أكثر على الذكاء الاصطناعي، وعلى الرغم من عدم وضوح تفاصيل هذا المشروع الجديد، تعهد السير كير ستارمر بزيادة قوة الحوسبة المملوكة للحكومة البريطانية بمقدار 20 ضعفاً.
ولكن يواجه رئيس الوزراء البريطاني ضغوطاً كبيرة لإقناع الأسواق بأن سياساته هذه ستعزز النمو الاقتصادي على المدى المتوسط، في محاولة للحفاظ على استقرار الخطط المالية لحكومته، فقد شهدت تكاليف الاقتراض في بريطانيا ارتفاعاً إلى أعلى مستوياتها خلال 16 عاماً نتيجة لبيع السندات.
في هذا السياق، أكد ستارمر أنه لا يتوقع أن يستغرق الأمر خمس أو عشر سنوات لمضاعفة الإنتاجية، معرباً عن ثقته بأن الأطر الزمنية ستكون أقصر بكثير، ومع ذلك، تواجه مراكز البيانات التي تدعم خوارزميات الذكاء الاصطناعي تحديات كبيرة، حيث إن بناءها يستغرق سنوات، بينما لا تزال خطط الحكومة لمكتبتها الوطنية للبيانات في مراحلها الأولية.
الخلاصة في الحديث عن تأثير الذكاء الاصطناعي على الوظائف في بريطانيا، أنه على الرغم من الفرص الواعدة التي يقدمها، من الضروري أن ندرك المخاوف والتحديات التي يطرحها في سوق العمل ونعمل على معالجتها، فتشريد الوظائف، التأثير غير المتكافئ عبر الصناعات، استقطاب المهارات، الاعتبارات الأخلاقية، والتأثير النفسي على العمال، كلها قضايا ملحّة تحتاج إلى اهتمام فوري، ويتطلب التكامل المسؤول للذكاء الاصطناعي اتخاذ تدابير استباقية للحد من العواقب السلبية، ما يستدعي تعاون الشركات والحكومات والمؤسسات التعليمية لتطوير استراتيجيات شاملة تركز على رَفَاهيَة العمال، وتوفير برامج إعادة التدريب والدعم، وضمان سوق عمل عادلة وشاملة.
ومن هنا فإن الطريق إلى الأمام واضح: ينبغي على المملكة المتحدة تنسيق استثماراتها في البنية التحتية والمواهب مع طموحاتها في مجال الذكاء الاصطناعي، من خلال تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتقليل العقبات التنظيمية، والتركيز على تطوير المهارات بشكل مستمر، يمكن للمملكة المتحدة تعزيز مكانتها كقائدة عالمية في هذا المجال.
وليس كافياً أن تطمح المملكة المتحدة إلى الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي، بل يتعين عليها دعم طموحاتها من خلال استثمارات استراتيجية طويلة الأجل في البنية التحتية الرقمية ورأس المال البشري، بهذا، ستضمن مكانتها في طليعة التطورات في هذا المجال وتضع الأساس لاقتصاد مرن ومؤهل للمستقبل.