مقالات
الحكومة ومواجهة إشكالات السياسة السكانية في المملكة المتحدة.. حلول مرتقبة وثورة في الحزام الأخضر!!
نشر
منذ 8 أشهرفي
396 مشاهدة
By
Baidaواجهت مشكلة الإسكان في المملكة المتحدة منذ عقود، تحديًا كبيرًا على خلفية زيادة السكان والطلب المتزايد على المساكن؛ حيث شهدت البلاد نقصًا حادًا في المنازل المناسبة وميسورة التكلفة، مما أثر على العديد من الأشخاص والأسر وعلى الاقتصاد البريطاني ككل.
ووفقًا لتقارير حكومية صادرة عن وزارة الإسكان البريطانية، فإن العجز السكني ظل يتفاقم نتيجة عدم قدرة السياسة السكانية التي يتم تطبيقها في البلاد، على مواكبة احتياجات البريطانيين من الوحدات السكنية، والتي تتطلب بناء أكثر من 150،000 وحدة سكنية جديدة سنويًا لتحسين الأوضاع فقط، ناهيك عن حل المشكلة السكانية من أساساها، خاصة مع تزايد حجم التحديات بفعل استمرار عجز مشاريع البناء عن اللحاق بهذا الطلب المتسارع، الأمر الذي أوجد فجوة بين الاحتياجات والمعروض فعلياً، ترتب عليها تداعيات سلبية متراكمة أفضت إلى ارتفاع أسعار العقارات بنسبة تفوق 8% سنوياً، وخاصة في المناطق الحضرية الرئيسية مثل لندن ومانشستر، وهي النسبة الأكبر منذ عقد تقريباً.
كتب: محسن حسن
أزمة الاضطرابات السكنية في المملكة المتحدة
في ظل وضعية سكانية متأزمة، عانى العديد من الأفراد والأسر من الاضطرابات السكنية، بحيث شكل الإيجار نسبة كبيرة من دخولهن الشهرية، كما وجد أكثر من مليون وربع المليون منزل خاص يعاني من مشاكل في الصيانة والسلامة، مما جعلها غير صالحة للسكن، هذا بالإضافة إلى أن المملكة المتحدة ظلت لسنوات عديدة وإلى الآن، في مرتبة أقل من حيث المعروض السكني قياساً بالدول المجاورة أو حتى البعيدة، سواء على مستوى الكم أو الكيف.
وحتى تستطيع دوانينج ستريت الوصول بعدد الوحدات السكنية إلى متوسط المعدل السكني المتحقق في دول الاتحاد الأوروبي لكل مائة ألف نسمة، يتعين عليها بناء أكثر من 3.3 مليون منزل جديد في انجلترا وحدها، في حين نجد أن أغلب المساحات السكنية الحالية في البلاد، تتسم بالمحدودية وضيق الحيز السكني؛ إذ تبلغ مساحة المنزل البريطاني ثلثي مساحة المتوسط المساحي للمنزل المناظر في غالبية الدول الأوروبية، وأقل من النصف قياساً بمتوسطات المنازل المناظرة في نيوزيلندا واستراليا وأمريكا الشمالية.
ويؤكد الاستقراء الشامل لمجمل التقارير السكانية العامة والخاصة في المملكة المتحدة، أن سياسات التعامل مع هذه المشكلة ظل على مدار عقود ماضية، لا يرقى إلى حجم تعقيداتها المجتمعية داخل المدن البريطانية المختلفة، وخاصة بالنسبة للفئات محدودة الدخل، والتي لم تستطع مواكبة الزيادات المبالغ فيها في أسعار شراء وإيجار المساكن والبيوت، كما لم تتمكن من تسريع وتيرة حصولها على وحدات سكنية ضمن قطاع الإسكان الاجتماعي، وكان يزيد من حجم المعاناة، التفاوت الكبير بين إجمالي الدخل السنوي لهذه الفئات من جهة، ومتوسطات أسعار المنازل من جهة مقابلة؛ ففي انجلترا كان متوسط أسعار المنازل، يتجاوز سبعة أضعاف متوسط الدخل السنوي للمواطن البريطاني الذي يعمل بدوام كامل قبل خصم الحصة الضريبية، وإذا ما أخذنا في الاعتبار ارتفاع إيجار الوحدات السكنية بشكل مبالغ فيه ضمن القطاع الخاص البريطاني، قياساً بنظيره في أماكن ودول أخرى، سندرك إلى أي حد كانت معاناة الفئات المجتمعية الأدنى من المشكلة السكانية.
ومن الغريب حقاً أن هذا كان يحدث في ظل الاهتمام الكبير الذي يلقاه قطاع الإسكان الاجتماعي، والذي يشكل أكثر من 16% من حجم المخزون السكني في البلاد، وهي النسبة التي تتفوق فيها المملكة المتحدة على كل من القطاعات المناظرة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ودول الاتحاد الأوروبي؛ فبرغم هذا التفوق، ظل هناك أكثر من مليون أسرة بريطانية محرومة من دورها في الحصول على وحدات الإسكان الاجتماعي.
اقرأ أيضًا: الموافقة على بناء أول برج سكني للسيدات في بريطانيا
سياسات متأرجحة
وبمراجعة المتغيرات المتواترة للسياسات السكانية البريطانية منذ أكثر من سبعة عقود ماضية وإلى الآن، سنجد أن تلك السياسات تعرضت إلى كثير من التدهور والعشوائية، وإلى الانتقال من إيجابية التنمية إلى سلبية التخطيط وجموده؛ فعلى سبيل المثال، كانت التنمية السكانية مزدهرة خلال مراحل زمنية سابقة؛ فمنذ عام 1850 مروراً بالحربين العالميتين الأولى والثانية، كان بناء المساكن الجديدة ينمو بنسبة 1.5% على الأغلب سنوياً، بل زادت النسبة إلى أكثر من 2.5% خلال ثلاثينيات القرن العشرين وما بعده حتى الستينيات تقريباً، إلا أن انخفاضاً حاداً ضرب التنمية السكانية خلال الثمانينيات، وتحديداً منذ العام 1980 عندما هبطت النسبة إلى 0.5% سنوياً، أو أكثر بقليل، الأمر الذي أدخل السوق البريطانية في أزمة عقارية وسكنية حادة ارتفعت في ظلها معاناة البريطانيين من ارتفاع أسعار المنازل والأسعار الاستهلاكية بصفة عامة، إلى جانب معاناة الأجيال المتتابعة من الاضطراب الاقتصادي والإنتاجي والمهني الوظيفي وعلى كل المستويات المجتمعية تقريباً.
وهذه المعاناة استدعت من الحكومات والأحزاب البريطانية المتعاقبة اتخاذ بعض الإجراءات الهادفة إلى استعادة السياسات السكانية المتوازنة، والتي اتجهت بدورها إلى زيادة نسب ومعدلات التنمية السكانية وبناء المنازل في عموم المناطق البريطانية، وهي الإجراءات التي ظلت محفوفة بالكثير من التحديات المانعة من تحقيق التنمية السكانية المنشودة من قبل المواطن البريطاني.
ووفق البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاءات الوطني 2023، يتضح أن معاناة البريطانيين من السياسات السكانية، تجسد في اتساع الفجوة بين متوسط أسعار المنازل ومتوسط الأجور الإجمالية السنوية للأفراد العاملين بدوام كامل كما تمت الإشارة من قبل؛ ففي حين ظلت قدرة البريطانيين على شراء المنازل مستقرة لأكثر من قرن بداية بعام 1845، إذا بهذه القدرة تتهاوى بعد ذلك خلال العقد الأخير من القرن العشرين، لترتفع الفجوة المشار إليها في الفترة من 1997 إلى 2022، إلى 8.3 في انجلترا، و6.2 في ويلز، و12.5 في لندن، و10.1 في بعض مناطق شرق انجلترا، و10.8 في بعض مناطق الجنوب الشرقي، مع تفاوتات مناطقية أخرى أقل حدة.
وكانت المحصلة المستخلصة من هذه المؤشرات، تفيد بأنه في الوقت الذي ينفق فيه المواطن الألماني 5% والمواطن الفرنسي 9% فقط على تكاليف الإسكان، فإن المواطن البريطاني ينفق أكثر من 40% من دخله على التكاليف ذاتها، في ظل حالة اقتصادية متأزمة، وأيضاً في ظل سياسات إسكانية قاصرة تساهم في تعريض فئات مجتمعية عديدة، لتعسف الملاك والمؤجرين ولمظاهر الإخلاء السكني غير العادل، على خلفية عريضة من إيجارات وأثمان سكنية باهظة، تحول دون فاعلية الإجراءات الحكومية المتخذة لتخفيض النفقات الإسكانية لملايين الفقراء وذوي الدخل المنخفض، الأمر الذي جعل من بريطانيا الدولة المتقدمة الأسوأ عالمياً من حيث امتلاك وشراء وتأجير المساكن.
اقرأ أيضًا: بريطانيا: 85 مليون جنيه إسترليني من صندوق دعم الأسرة لتغطية تكاليف المعيشة
معايير وتوجهات
يبدو من السجالات البريطانية القائمة بين دعاة التنمية السكانية ومناصريها من جهة، والمؤيدين لقيود إطلاق البناء والمساكن الجديدة من جهة أخرى، أن إشكالات السياسة السكانية في المملكة المتحدة، خضعت على مدار سنوات عديدة، لمعايير متضادة ومتعارضة، أكثرها تأثيراً يميل إلى مراعاة المصالح الخاصة والحزبية والاستثمارية، على حساب المصالح الوطنية العامة لعموم الفئات الفقيرة في البلاد؛ ففي الوقت الذي اعترفت فيه الحكومات ممثلة في وزارة الإسكان البريطانية بالتداعيات الصارخة لتلك السياسات السكانية المتعارضة، إلا أن الحلول استمرت معدومة أو معطلة بفعل فاعل.
وعلى مستوى النهج الحكومي تبنى حزب المحافظين الحاكم سياسات تاريخية مناهضة وقلقة تجاه ما يُعتقد أنه (إفراط في التنمية السكانية)، ومن ثم، سارت خطط الإصلاح السكاني ببطء راسخ، بالتزامن مع سريان الضغوط المفروضة على بناة المنازل من قبل مؤسسات الدولة بحجة حماية المرافق المائية سابقاً، والتزامات خفض الكربون مؤخراً، وفي الوقت الذي كان يجب أن تسعى فيه الحكومة إلى رفع معدلات الإسهام الاقتصادي لقطاع البناء والتشييد، فإن النهج السلبي السائد، ساعد على تدهور هذا القطاع رغم الحاجة الماسة إليه اقتصادياً ومجتمعياً، وبالتالي ازداد الوضع السكاني سوءاً؛ حيث قفزت الإيجارات الجديدة بنسبة تزيد على 11%، كما بلغت نسبة منازل البريطانيين غير اللائقة للسكن أكثر من 20%، في حين باتت نسبة كبيرة من هذه المنازل تعاني الترهل والتعفن والرطوبة وتآكل الأسطح، وهي المظاهر التي أصبحت تغطي أكثر من 17.5% من عموم البيوت والمنازل في المملكة المتحدة.
وفي الحقيقة، لا يمكن تحميل المؤسسات الرسمية والسكانية وحدها مغبة المسؤولية عن تدهور الوضع السكني في البلاد على كافة المستويات الكمية والكيفية؛ لأن أغنياء وأثرياء المدن والمناطق المختلفة بطول المملكة المتحدة وعرضها، هم أيضاً مشاركون في تلك المسؤولية؛ إذ أنهم في مقدمة المدافعين عن تقييد النظم والتخطيطات السكانية الهادفة إلى التوسع في البناء، وفي الوقت الذي عانت فيه الغالبية من فئات المجتمع البريطاني من الحاجة الماسة إلى إطلاق يد البنائين والمشيدين لبناء منازل حديثة تتمتع بمزايا الجودة في التصميم والمساحة وتوفير الطاقة، وقف هؤلاء حجر عثرة أمام تحقيق ذلك، مستخدمين نفوذهم المالي والمجتمعي للحد من تحسين البنية السكنية بالقرب من محيطهم الجغرافي حماية لمصالحهم.
وهذا السلوك من أثرياء بريطانيا، اضطرت معه الحكومات المتعاقبة إلى الاعتماد على خطط وسياسات سكانية قصيرة وقاصرة عن تلبية الاحتياجات الضرورية للفئات الأقل دخلاً، ما جعل المملكة المتحدة هي الدولة الأقل نسبة من حيث المنازل الشاغرة من بين ثمانية وثلاثين دولة هي مجموع دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهو ما حدث بالتزامن مع إصرار حكومي ممتد منهجياً وتخطيطياً منذ العام1947، على حصر المشروعات السكنية الجديدة في أواسط المدن والمناطق، وعلى عدم البناء في الحزام الأخضر إلا وفق شروط صارمة، كانت تفتقد في الكثير من الأحيان للمرونة و الإيجابية والمواكبة الواجبة للاحتياجات السكانية الملحة.
اقرأ أيضًا: عمال البناء البريطانيون يتوجهون للرياض.. السعودية تسحب البساط من المملكة المتحدة
تعديل مسار
وفي بدايات العام الحالي 2024، شهدت بريطانيا بعض الانفراجات المحدودة في سد الفجوة السكانية كماً وكيفاً من خلال محاولات مقننة لتطويق الآليات المناهضة للتنمية السكانية، وفتح الباب جزئياً للبناء الانتقائي وتخطيط المدن الجديدة في نطاق الحزام الأخضر وحول محطات الركاب وملاعب الجولف، وهو ما يجب التنبيه إلى ضرورة استمراره، والعمل على تحويله إلى سياسات ثابتة ومطردة في عموم مناطق المملكة المتحدة، نظراً لما يمكن أن يفضي إليه من تحسين كبير، ليس في جودة الحياة السكانية للبريطانيين فحسب، وإنما في جودة الحياة عموماً وعلى كافة المستويات؛ إذ أن إحياء المنظومة السكانية للبلاد وفق أسس تنموية مستدامة، سيكون من شأنه بعث قطاعات حيوية رئيسية من مواتها، لعل أهمها قطاع التشييد والبناء، وقطاع المال والأعمال، إلى جانب الحصول على مميزات أخرى كثيرة مرتبطة بتعديل السياسات السكانية، من بينها محاربة الفقر والتشرد، واختصار قوائم الباحثين عن الإسكان الاجتماعي، والهبوط بمعدلات الأسعار الاستهلاكية، وأسعار الإيجار والشراء للمنازل، وتحفيز منظومة العمل والإنتاج بشكل داعم للاقتصاد الوطني والناتج المحلي الإجمالي.
وفي حال استقرت السياسات السكانية البريطانية وفق الانفراجات الجديدة والمشار إليها، والتي ظهرت بوادرها فور الانتهاء من الانتخابات العامة 2024، فإن المتوقع حالاً، ومستقبلاً على المديين المتوسط والبعيد، هو انخفاض كبير في معاناة البريطانيين من الأزمة السكانية بكل أنماطها المعنية بشراء المنازل أو استئجارها؛ حيث ستتحول دفة الأوضاع السكانية من وجهها السلبي إلى الوجه الآخر الإيجابي، وذلك بفعل ما ستفضي إليه الثورة السكانية الأحدث من تفوق نمو الأجور الحقيقية، على النمو المقابل لأسعار المنازل المشتراة والمؤجرة، جنباً إلى جنب، مع القضاء على مظاهر الاحتكار السكني من قبل ملاك المرافق السكنية بالقطاع الخاص؛ حيث ستتحول الأوضاع لصالح الفئات المهمشة والمغلوبة على أمرها، نظراً لتطور المعروض من المساكن الجديدة وكثرتها، وهو ما سيجبر ملاك ومؤجري العقارات والمنازل الخاصة على استرضاء المستأجرين وبالتالي عدم المغالاة في الأسعار والإيجارات.
وبالطبع لن تقتصر إيجابيات المواجهة الحكومية الراهنة لإشكالات السياسات السكانية البالية والقديمة، على مجرد تذليل التحديات السكنية للفئات ذات المستوى الأدنى من حيث الدخل، وإنما ستستعيد المملكة المتحدة زخم النمو السكني الذي تأخر عن ركب التنافسية الدولية والإقليمية من حيث عدد الإنشاءات الجديدة سنوياً، وكذلك من حيث المواصفات والمعايير الخاصة بجودة المنتج السكني وفق أحدث التقنيات والمواصفات العالمية، هذا إلى جانب الفوائد الإجمالية الأخرى المرتبطة بتنشيط المنظومة السكانية، والتي يأتي في مقدمتها توفير نسبة الدعم المالي للإيجارات، والتي كانت تزيد على 1.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي توجيهها إلى منح وتخفيضات ضريبية لدعم أصحاب المنازل السكنية المحتاجة إلى الترميم والإصلاح.
وبشكل إجمالي، سيكون لتعديل السياسات السكانية بوضعه الحديث والمتجدد الحالي، دوراً بالغ الأهمية في التأسيس لصياغة معمارية وإنشائية وحضارية، أكثر تنموية واستدامة على صعد ومستويات متنوعة، سوف تساهم بقوة في تحقيق التوازن والاندماج والتناسق بين الكتل السكنية من حيث التنسيق الظاهري والهندسي، وكذلك من حيث تحفيز حركة الأنشطة التجارية والاقتصادية والإنتاجية ضمن سياقها المحلي وأسواقها الداخلية، وهو ما سيدعم الحالة الاقتصادية الكلية للبريطانيين، كما سيساعد مؤسسات المملكة المتحدة على رفع الكثير من الضغوط الاجتماعية ذات الوجه الاقتصادي والمعيشي والإنساني، شريطة المداومة على التطبيق الفاعل والخلاق لنهج الإصلاح السكاني الطموح والتوسعي بعيداً عن اعتبارات المصالح الخاصة والتوجهات الطبقية لذوي السلطة والنفوذ.