السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية في السودان: أولوية دبلوماسية للحل السلمي ومناهضة التقسيم
تابعونا على:

إخترنا لكم

السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية في السودان: أولوية دبلوماسية للحل السلمي ومناهضة التقسيم

نشر

في

380 مشاهدة

السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية في السودان: أولوية دبلوماسية للحل السلمي ومناهضة التقسيم

ترتبط المملكة العربية السعودية بعلاقات راسخة ومستقرة ومتينة مع السودان منذ القدم؛ فقد كانت الأخيرة تشكل ممراً مثالياً للهجرات العربية المختلفة إلى القارة الإفريقية، سواء من أجل التجارة و الاقتصاد، أو من أجل الأنشطة المتنوعة الأخرى، الدينية والاجتماعية والثقافية؛ حيث توطدت الروابط المختلفة بين السعوديين والسودانيين من خلال رحلات الحج والعمرة وخاصة الرحلات الدارفورية والسنارية، وهذه الرحلات والهجرات والأنشطة، ساهمت في تعزيز كافة الروابط بين البلدين، وساعد على نموها، استقلال السودان عام 1956، وإطلاق أول تمثيل دبلوماسي بين الجانبين.

كتب: محسن حسن

بين الوساطة والأزمة

لقد كان لإسهام السودان الفاعل في نزع فتيل الخلاف وإجراء المصالحة بين الملك السعودي (فيصل بن عبد العزيز)، والرئيس المصري (جمال عبد الناصر)، خلال قمة الخرطوم عام 1967، دوراً محورياً في حدوث نقلة نوعية في العلاقات السياسية والدبلوماسية المتبادلة تجاه المواقف والقضايا المشتركة أو المتعلقة بالمنطقة بين الرياض والخرطوم.

 فمنذ ذلك الحين، وعلى مدار سنوات عديدة، تبادلت القيادات السعودية والسودانية مبادرات البناء والتطوير والتنمية، وهو ما ظهرت آثاره منذ سبعينيات القرن العشرين، عندما بادرت المملكة العربية السعودية، إلى تبني العديد من خطط تطوير البنية التحتية في السودان، وضخ استثمارات كبيرة لإنجاز العديد من المشاريع الحيوية و المؤثرة، في حين حرص أبناء السودان على المشاركة بفاعلية في جهود التنمية والتطوير على أرض المملكة.

واليوم يتواجد الطلاب السودانيون في الجامعات السعودية ويشاركون أشقاءهم من الشباب السعودي الدراسة وتلقي العلم في جامعة أفريقيا العالمية وباقي الجامعات الأخرى، كما يجمع البلدين تعاون اقتصادي مشترك في عدة قطاعات حيوية يأتي في مقدمتها القطاع الزراعي، بالإضافة لتعاونهما الدائم في مجال التجارة الدولية عبر البحر الأحمر.

ومؤخراً عانت السودان من أزمة سياسية وعسكرية، تمخضت عن صراع عنيف على السلطة، بين الجنرال (عبد الفتاح البرهان) من جهة، وهو الرئيس التوافقي للمجلس السيادي الانتقالي الذي يشكل أعلى سلطة سياسية في البلاد بعد الإطاحة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير خلال ثورة شعبية عام 2019، وأيضاً بعد تعزيز موقفه السياسي والعسكري في الجيش السوداني إثر أحداث العام 2021، و(محمد حمدان دقلوالشهير باسم(حمديتي)، وهو ئيس قوات الدعم السريع شبه العسكرية، من جهة أخرى، وهي الأزمة التي لا تزال تلقي بظلالها القاتمة على الواقع السوداني سياسياً واقتصادياً وأمنياً؛ وتؤدي إلى خسائر بشرية كبيرة و إلى استمرار مقتل الآلاف ضمن سياق أحداثها المتلاحقة (أكثر من 12 ألف قتيلبحسب تقديرات الأمم المتحدة)، بل أدت فعلياً وميدانياً إلى تشريد ونزوح قرابة المليون ونصف المليون سوداني.

اقرأ أيضًا: بريطانيا تنهي رحلات إجلاء رعاياها من السودان

الاستقرار والأهمية

في ظل هذه الأوضاع السودانية المتأزمة، أصبحت العلاقات المتبادلة بين الرياض والخرطوم، تمثل أولوية كبيرة بالنسبة لتوجهات واهتمامات السياسة الخارجية للقيادة السعودية، وذلك لعدة اعتبارات مهمة، جوهرها ما يمثله السودان من مكانة جيوسياسية كبيرة للسعودية والسعوديين؛ فعلى مستوى الجغرافيا، يحتل السودان موقعاً استراتيجياً في قلب القارة الأفريقية، وهذا الموقع يمتد تأثيره على طول البحر الأحمر، حيث يشكل نقطة التقاء للعديد من الطرق البحرية والبرية التي تربط الشرق الأوسط بإفريقيا، ومن ثم فهو ذو أهمية بالغة من حيث قدرته على تعزيز التواصل الاقتصادي والتجاري والأمني بين السعودية وباقي دول القارة الأفريقية.

ومن الناحية السياسية، يعد استقرار السودان هدفاً استراتيجياً وحيويًا للسعودية والمنطقة بشكل عام؛ فمن خلاله يمكن للمملكة المحافظة على الأمن والسلام في المنطقة، و الإسهام في تعزيز التعاون الاستراتيجي بينها وبين الدول الأفريقية، كما يلعب السودان دورًا مهمًا كوسيط فاعل في التخفيف من حدة الصراعات الإقليمية والدولية، وهو من هذه الناحية، يعد شريكًا أمنياً مهمًا للسعودية في جهود مكافحة الإرهاب والتطرف في المنطقة؛ حيث يسهم التعاون الأمني بين البلدين، في تبادل المعلومات وتعزيز الأمن الإقليمي ومكافحة التهديدات المشتركة.

وعلى مستوى الاقتصاد، تعد الثروات الطبيعية والاقتصادية المتنوعة، والتي يمتلكها السودان مثل النفط والغاز والمعادن والموارد المائية، مصدرًا مهمًا للتعاون الاقتصادي بين الرياض والخرطوم، حيث يمكن للمملكة الاستفادة من هذه الموارد في تعزيز قطاعاتها الاقتصادية المختلفة، بما في ذلك الطاقة والصناعة والزراعة، وهو ما يساعد في تسريع وتيرة التحول والإصلاح والتنوع الاقتصادي وفق رؤية 2030 الطموحة.

وإجمالاً، يمثل السودان نقطة استراتيجية مهمة للسعودية في الشرق الأوسط وإفريقيا، ولذا فإن الموقف الدبلوماسي والسياسي والاستراتيجي للمملكة العربية السعودية تجاه هذا البلد، يتسم بالثبات والقوة من حيث ضرورة العمل على أمنه و استقراره ووحدة أراضيه، وهو ما يتضح جملة وتفصيلاً من الموقف السعودي الراهن تجاه الأحداث السودانية المقلقة.

اقرأ أيضًا: المملكة العربية السعودية.. دور محوري ورئيسي في تفكيك أزمات المنطقة والعالم

دبلوماسية وازنة

وبالنظر إلى نهج السياسة الخارجية للسعودية في السودان، والذي يهدف إلى إقرار الأمن والحفاظ على وحدة الأراضي السودانية ضد أية مخططات للتقسيم والتجزئة وتفتيت القوى والنفوذ، نجد أن الرياض اتخذت موقفاً مؤيداً للدفاع عن الشرعية الدولية التي يمتلكها المجلس السيادي الانتقالي بقيادة (البرهان)، ضد الطموحات الخاصة والشخصية لقائد قوات الدعم السريع (حمديتي)، وذلك على اعتبار أن الانسياق وراء طموحات الأخير، يمكن أن يشكل خطراً داهماً على مستقبل الشعب السوداني وعلى مؤسسات الدولة السودانية في ظل أوضاع دولية وإقليمية مضطربة وغير مأمونة العواقب.

وأيضاً في ظل النهج العنيف الذي تطبقه قوات الدعم السريع في التعامل مع الوضع الداخلي السوداني، ومن ثم، فقد كان الموقف السعودي منذ بدايات الأزمة واندلاع الحرب قبل قرابة العام من الآن، هو التأكيد على ضرورة اللجوء إلى الحلول الدبلوماسية وعدم السماح بفتح المجال للتدخلات الخارجية السافرة في الشأن السوداني، مع منح الأولوية الكاملة لتعزيز الآليات المتدرجة نحو إجراء انتخابات تفضي إلى إقرار حكم مدني للبلاد.

ورغم التحذير السعودي المتكرر من مغبة التدخلات الخارجية في الشأن السوداني، وخاصة في الأزمة الأخيرة بين البرهان وحمديتي، إلا أن الواقع الميداني يؤكد أن هذه التدخلات متحققة بالفعل وتتسع يوماً بعد يوم، الأمر الذي ترتب عليه تعرض البنية التحتية السودانية للدمار والخراب، بعد أن استطاعت قوات الدعم السريع السيطرة على قطاعات كبيرة من مناطق الغرب السوداني والعاصمة الخرطوم، سالكة نهجاً عنيفاً من التطهير العرقي، وهو ما دفع الجيش السوداني إلى اتخاذ إجراءات مضادة لحماية المدنيين ولاستعادة الأراضي الخارجة عن نطاق سيطرته.

 وبالتالي، باتت السودان، خاضعة لمراكز نفوذ متعددة السلطات، وهو ما يهدد وحدة السودانيين، ويدفع القيادة السعودية إلى مزيد من التعاطي الفاعل من أجل الحصول على ضمانات دولية وإقليمية مؤسسة لاستقرار هذا البلد وللوصول بمساره الديمقراطي إلى بر الأمان.

اقرأ أيضًا: مركز حماية الشهود والضحايا: تعزيز الأمان والعدالة في المملكة العربية السعودية

مسارات داعمة

وبالعودة إلى الوراء قليلاً ، سنجد أن جهود المملكة من أجل إقرار الوحدة والأمن في السودان، ممتدة منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة الراهنة؛ حيث قامت بتقديم الكثير من المساعدات المالية والسياسية والمدنية، ما ساعد على استقرار نسبي في المسار الديمقراطي للسودان.

وخلال العام 2022، خصصت الرياض ميزانيات جديدة للاستثمار في قطاعات اقتصادية سودانية مختلفة ومتنوعة كالقطاع الزراعي والتعديني وقطاع البنية التحتية، وهي الاستثمارات التي زادت قيمتها المالية على 20 مليار دولار، وبالطبع كانت هذه الاستثمارات السعودية وغيرها في السودان، مقترنة بدعم سعودي قوي للمسار السياسي للمجلس الانتقالي؛ ففي حين تداخلت العديد من المصالح الخاصة بأطراف دولية وإقليمية، مع الأحداث المشتعلة بين الجيش وقوات الدعم السريع، وكانت هذه المصالح في أكثرها، متباينة ومتعارضة مع طبيعة النهج السعودي الموضوعي والمتوازن والحذر ضمن سياق الأزمة.

إلا أن الرياض لم تتنازل عن دورها المحوري الهادف إلى حل الأزمة، وذلك عبر قيامها برعاية أول مفاوضات لوقف إطلاق النار بين الطرفين المتنازعين في مدينة جدة بمساعدة أمريكية، إلى جانب قيامها بتقديم مساعدات إنسانية ولوجيستية عاجلة للمدنيين السودانيين المتضررين داخل وخارج السودان، بما في ذلك إجلاء العالقين في مناطق النزاع وفي العاصمة الخرطوم.

وفي حين تدرك الرياض حجم التهديدات التي تواجهها الأوضاع السياسية في السودان، جنباً إلى جنب، مع استحضار المآلات الكارثية التي يمكن أن تترتب على تمدد قوات الدعم السريع وسيطرتها على تلك الأوضاع في البلاد، فإنها تعمل بجد على عدم ترك الساحة السودانية نهباً للعابثين والمتلاعبين والساعين بها إلى نطاق الفرقة والتقسيم.

وكآلية شاملة، تواكب المملكة العربية السعودية بين ثلاثة مسارات متزامنة للتعاطي المرن والإيجابي مع تطور الأحداث السودانية؛ المسار الأول سياسي يعتمد على إظهار الشرعية الدولية للمجلس الانتقالي، مقابل إظهار قوات الدعم السريع في نطاقها الطبيعي كقوة خارجة عن إطار تلك الشرعية.

 ووفق هذا المسار تنطلق القيادة السعودية في اتجاه ترسيخ نفوذها الدبلوماسي والإنساني الهادف لدعم مفاوضات حل الأزمة، والمسار الثاني اقتصادي يركز على إطلاق يد الاستثمارات مزدوجة المصالح، والتي تقدم خدمات فاعلة على المستوى المالي والتجاري لكل من الاقتصاد السوداني والسعودي على السواء.

 في حين يتجسد المسار الثالث في فرض رقابة سعودية وازنة من الناحية الاستراتيجية تجاه أية تحركات دولية أو إقليمية داعمة لاضطراب الوضع الداخلي في السودان، أو راغبة في تحقيق مصالحها الخاصة على حساب وحدة السودانيين واستقرارهم الأمني والسياسي.

اقرأ أيضًا: محددات السياسة النفطية الراهنة للسعودية في ميزان الاقتصاد والأمن والتحالفات الدولية.. المغزى وسؤال المرحلة!!

حاضنة سلام

وعلى الرغم من وضوح ميل المملكة العربية السعودية إلى تحقيق الاستقرار في السودان عبر استكمال المجلس الانتقالي مساره السياسي الطبيعي نحو إجراء الانتخابات وإقرار الحكم في البلاد، إلا أن النهج السعودي المتزن والمرن تجاه هذه الأزمة، لا يقدم الرياض باعتبارها داعماً غير محايد في سياق الصراع السوداني الحالي على السلطة بين البرهان وحمديتي، وذلك لأن الرياض تمارس دبلوماسية سلمية حاضنة للأزمة منذ البدايات وحتى الآن، ولعل هذا هو ما يعزز ثقة الطرفين المتنازعين فيما تقدمه المملكة من مقترحات ومبادرات لحل الأزمة وإنهاء الخلاف.

وفي حال توصل الطرفين للحل الضامن لأمن واستقرار ووحدة السودان، فإن المملكة ستكون أول المرحبين بذلك، طالما أن المآلات المتحصلة تسير في اتجاه الحفاظ على تماسك النسيج السوداني في بلد يعد من بين الدول الأكبر مساحة على مستوى القارة الإفريقية، وفي الحقيقة هذا يحسب للقيادة السعودية؛ أنها تطبق نهجاً عملياً منفتحاً في سياساتها الخارجية عموماً، وفي سياساتها تجاه المشكلات والأزمات الطارئة على وجه الخصوص، وهو ما يجعلها حاضنة مثالية محايدة ومرنة لمفاوضات الصلح ومنصات التشاور على المستويين الإقليمي والدولي.

وبعد، إن المتأمل لطبيعة التداعيات السلبية المستمرة منذ عام على صعيد الأزمة السودانية، لابد وأن يصل إلى قناعات راسخة بخطورة التدخلات الخارجية السافرة ذات المصالحية العداونية بين طرفي الأزمة كما هو الحال في طريقة تعاطي بعض القوى الإقليمية والدولية، وهو ما ساهم فعلياً في عدم التوصل إلى حل للأزمة حتى اللحظة، الأمر الذي يؤكد مثالية النهج السعودي الوازن في التعاطي معها، وكونه النهج الأكثر مرونة وجدارة بتحقيق نتائج إيجابية على مستوى المآلات المستقبلية لهذا الصراع، حال ترك هذا النهج ليمارس دوره الحيادي والموضوعي بين الطرفين المتنازعين دون تدخلات استفزازية من أطراف أخرى لا يهمها سوى تحصيل المنافع الاقتصادية والسياسية المحضة، والوصول إلى منصات الهيمنة والنفوذ على حساب أمن وسلامة ووحدة السودانيين.

ورغم أن سعي أي طرف إلى تحقيق مصالح ما على الساحة السودانية، لا يعد عيباً في حد ذاته طالما كان ذلك وفق القواعد والأصول الاقتصادية والتجارية والاستثمارية التي تتيحها العلاقات الدولية الشرعية، إلا أن بعض المصالح وأنصار المصالح، قد يطبقون نهجاً مسموماً لتحقيقها، وهو ما لا يُحمد عقباه في أزمة كأزمة السودان الراهنة، والتي تُنذر حال استمرارها، باندلاع توترات صادمة على مستوى السياسة والأمن والاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، نظراً لمركزية السودان الإفريقية، وتماسه مع العديد من المصالح المتشابكة لأطراف عدة إقليمية ودولية.

الأمر الذي يعني ضرورة المضي قدماً في تنقية الأجواء السودانية من العبث السياسي والاستراتيجي والأمني للطامحين والطامعين المتربصين بوحدة هذا البلد، ومن ثم، يبقى سعي المملكة العربية السعودية الوازن والمحايد لنزع فتيل الخلاف ودعم حكومة سودانية مستقرة، هو الجدير بالدعم والتأييد.

اقرأ أيضًا: بين حصاد 2023 وانطلاقة 2024 تحولات سعودية واعدة في الاقتصاد والسياسية والاستراتيجية

X