ظاهرة العظام الزجاجية.. آلام الحال وتحديات المُحال
تابعونا على:

مدونات

ظاهرة العظام الزجاجية.. آلام الحال وتحديات المُحال

نشر

في

128 مشاهدة

ظاهرة العظام الزجاجية.. آلام الحال وتحديات المُحال

كتبه: محسن حسن 

العظام الزجاجية أجسام بشرية قابلة للكسر، يبلغ أصحابها سن العشرين وما بعدها، لكنهم يعيشون بأجسام السنة الثالثة من حيث القدرة على التحمل والحركة، وتعد هذه الظاهرة منتشرة حول العالم، وفي المملكة المتحدة وحدها قرابة الخمسة آلاف حالة تعاني درجة ما من درجات هذه الظاهرة، و التي لا يقتصر وجودها على فئة  دون أخرى من البشر، لذا فكل أصحابها يعيشون محنة واحدة؛ فعندما يصبح الجسد مثل البيضة القابلة للكسر لأتفه الأسباب ولأقل الصدمات، فإن الحياة اليومية تستحيل همّاً مؤرقاً وتهديداً مستمراً بالموت، كما تصبح العلاقة مع الآخرين، ضرباً من الأمنيات غير القابلة للتحقق بسهولة ويسر، ناهيك عن ممارسة الحياة الزوجية والأسرية، والقدرة على إنجاب الأطفال وتربيتهم ورعايتهم في ظل تلك الحالة، لكن لكل قاعدة استثناء، ولأن إرادة الإنسان لا تقتصر على مجرد الجسد فقط، فهناك الروح الدافعة للجسد، والمهيمنة علية، والداعمة لمناعته ومقاومته، فإن من أصحاب العظام الزجاجية من استطاع إكمال المسيرة وتحقيق الغاية من حياته، ولكن تظل معاناة المرضى مؤلمة، ويظل المرض نفسه في حاجة لاكتشاف تفاصيله وللتعريف به، كوسيلة من وسائل التعامل معه والانتصار عليه. 

محنة إنسانية

بداية تُعرف هذه الظاهرة في الاصطلاح الطبي بـ (مرض العظام الزجاجية) أو Osteogenesis Imperfecta، وهي حالة مرضية وراثية في جزء كبير منها؛ بحيث تؤدي إلى تشوه تكوين عنصر(الكولاجين) في العظام، ما يؤدي إلى أن تصبح عظام الجسد هشة وغير قادرة على تحمل الصدمات الخفيفة، وهذه الحالة المرضية تحدث بدرجات أربع متفاوتة بين المصابين بها؛ فالدرجة الأولى يولد فيها الطفل ميتاً، والثانية شديدة وفيها يولد الطفل بكسور بعد الولادة، بينما الدرجة الثالثة متوسطة وفيها تظهر بعض الكسور قبل تعلم الطفل المشي، ثم تأتي الدرجة الرابعة والأخيرة، وهي أدنى وأبسط درجات الإصابة حيث تظهر الكسور متأخرة بعد تعلم الطفل المشي وقيامه باللعب، وهناك بعض الأعراض المصاحبة لحالات العظام الزجاجية، منها تأخر النمو وفقدان السمع وزرقان بياض العين بالإضافة لاعوجاج العمود الفقري، ولا يمكن التعامل علاجياً إلا مع نمطين فقط من أنماط هذا المرض وهما النوع البسيط والمتوسط، ويكون ذلك من خلال بعض الهرمونات والفيتامينات ومضادات الهشاشة والعلاج الجيني مع تثبيت الكسور وعمل الجبائر الداعمة للمفاصل والعمل على إصلاح الاعوجاجات، وفي واقع الحال لا يسمح هذا المرض في الغالب للمريض بممارسة الحياة الزوجية والأسرية. 

مرض خِلقي

تفيد خلاصات التشخيص الطبي للظاهرة، أننا أمام مرض خِلقي نادر يعد من قبيل الأمراض التي يرتبط ظهورها باختلالات وراثية حادة في مكونات الخلية العظمية، خاصة اختلالات المكون البروتيني المغذي للكتلة العظمية، وهو ما يؤدي بدوره إلى هشاشة حادة وغير طبيعية في عظام الجسد، حتى أن بعض المصابين يتعرضون للكسور في عظام القدمين واليدين والقفص الصدري في مرحلة ما قبل الولادة، و أثناء عملية الولادة ذاتها، وفيما بعد الولادة يكون عليهم عبء تحمل الإعاقة نظراً لبطء وتيرة النمو الحركي. ووفق الصادر عن منظمة الصحة العالمية ومؤسسات متابعة الأمراض، يتنامي هذا المرض بكثرة على المستويين الإقليمي والعالمي؛ إذ أنه يصيب ما يقرب من عشر حالات لكل تسعة آلاف طفل، وهو ما يحتم ضرورة التوعية به بين عموم الطبقات الاجتماعية.

اقرأ أيضاً: محمد طاهر طبيب بريطاني أعاد الأمل وسط الدمار

زجاجيون مثابرون

وباستقصاء بعض حالات العظام الزجاجية حول العالم، نجد أن غالبية أصحابها، مفعمون بالمثابرة والتحدي، وبالقدرة على التشبث بالأمل والحياة؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية تواجهنا حالتان شهيرتان، هما حالة الأمريكي (شون ستيفنسون) و الأمريكية (جين هاش)، وهما حالتان تمنحان البشرية، درساً في فلسفة البحث عن السعادة والتغلب على الإعاقة والمرض.

فالأول، ورغم طوله البالغ فقط 33.6 بوصة، عندما كان في سن الخامسة والثلاثين، ورغم أن رجليه كانتا الأصغر عالمياً بسبب الهشاشة، ورغم أنه تعرض في سن الــ 18 إلى ما يقرب من 200 كسر في رجليه وذراعيه ورقبته وأنفه ومختلف عظامه،  إلا أنه تزوج من (مايندي كينس)، وعاش معها حياة مليئة بالسعادة في مدينته (شيكاغو)، رغم معاناته من نظرة المحيطين به السلبية تجاه هذا الزواج انطلاقاً من اعتقادهم بعدم امتلاكه القدرة على تلبية المتطلبات الحميمية لزوجته، وبأنه زواج مصلحة، وهو ما نفته الأخيرة مؤكدة أنه ربما لم تبدأ علاقتهما بالحب، ولكنهما تزوجا، وأن زواجهما كان ناجحاً في كافة جوانبه، ولعل من أخطر الحوادث التي تعرض له ستيفنسون، كان سقوطه من على كرسيه المتحرك أثناء التنزه مع كلبه، حيث أصيب بكسور في الجمجمة والكاحل والفخذ والركبة والورك، وهو ما شكل تهديداً مباشراً على حياته.

أما الأمريكية (جين هاش)، فقد عانت مشكلات كثيرة بسبب تكسر عظامها، وحياتها على كرسي متحرك، وهو ما دعاها دوماً إلى تكرار أسئلتها للأطباء عن السر في شعورها الدائم بالاعتلال والمرض، وهل الأمر متعلق بنوع ما من الحساسية أم ببعض أعراض مرض السرطان؟ فكان الرد يأتيها دوماً بأن عظامها الزجاجية هي السر في كل ما تعانيه من أعراض وآلام وظروف قاهرة، وهو ما حفزها لاحقاً إلى اتخاذ قرارها الفيصلي بالاعتناء بنفسها صحياً، حيث قررت الحصول على حصص دراسية للاهتمام الطبيعي بالصحة، فاستطاعت الحفاظ على وزنها معتدلا لأكثر من عشر سنوات متتابعة، الأمر الذي ساهم في تقليل معاناتها من آلام الجهاز التنفسي، كما استطاعت أن تحصل على شهادة متخصصة أهلتها للعمل كمعلمة صحية تستطيع تعليم الآخرين طرق الوقاية العلاجية في حالات مرضية مشابهة لحالتها. 

اقرأ أيضاً: ماذا يحدث مع المهاجرين من عاملي القطاع الصحي؟

بين الحزن والانزواء

 وبالطبع لا يمكن تصنيف حالات العظام الزجاجية فقط في خانة المثابرة والتفاؤل ومقاومة الحالة المرضية الخاصة، لأن من بين الحالات الشهيرة لهذا المرض النادر مَن اضطرته الظروف إلى مواجهة التنمُّر والاضطهاد المجتمعي والأسري والعائلي، وإلى الدخول في حالة من الانزواء والصدام مع الأقرباء، ومن هؤلاء الاسترالية(جيما تيرنر)، والروسي(سيرجي إليوشين).

ظاهرة العظام الزجاجية.. آلام الحال وتحديات المُحال

فالأولى شملها الأثر النفسي لأصحاب هذا المرض، وواجهها الحزن واليأس، وغلب عليها الانزواء والتقوقع بعد أن تعرضت منذ ولادتها وحتى التاسعة عشرة من عمرها، لأكثر من 180 كسراً في عظامها، ووفق تصريحات تيرنر المتداولة، فإن حياتها لم تكن سهلة بالمرة، وأن أصعب شيء في حياتها كان تعرضها لتكسُّر عظامها عند قيامها بأية حركة أو نشاط، وأن تلك الصعوبة لم تكن فقط بسبب الألم، وإنما كانت أيضا بسبب ما تفقده من إحساس الاستقلالية و بفعل الحاجة الدائمة إلى الآخرين، ولأنها عانت عجزاً كاملاً عن العمل والكسب بسبب ظروفها الصحية، اضطرت إلى المشاركة في رعاية يوم احتفالي يسمى يوم(مرضى العظام الزجاجية) يوافق الرابع من مايو، وهو اليوم الذي ابتكرته استراليا بعد مؤتمر كبير عُقد عام 2008 لهذا النوع من المرضى النادرين، ويتم فيه جمع أموال لمساعدة هؤلاء الناس للتغلب على ظروفهم الحياتية الصعبة. 

أما الروسي (سيرجي إليوشين)، والذي عاش في منطقة(بلاشيخا) الروسية، فإنه أصيب بهذا المرض في سن مبكرة وتلقى تعليمه بالمنزل، ولكنه عندما تزوج، تعرض وهو في سن السابعة والثلاثين من عمره ، إلى الطرد من قبل عائلته، ولأنه لم يكن يملك القدرة على مقاضاة هذه العائلة، فإنه وجد نفسه بلا مكان يؤويه، وهو ما أشعره بالحزن العميق وبالتهديد الدائم لاستقراره الأسري، خوفاً من أن يفقد زوجته ومنزله و من أن يعيش وحيداً منبوذاً في بيت العجزة، خاصة مع معاناته الإضافية من الصمم وأمراض الشعب الهوائية، ولولا أنه كان محظوظاً بزوجة استطاعت أن تتكيف مع حياته الروتينية و مع متاعب ابتعاد الناس عن التعامل مع أمثاله من المرضى، لما كان له بريق من الأمل يستطيع التمسك به من أجل الحياة. 

اقرأ أيضاً: الحكومة البريطانية تفرض حظراً صحياً بسبب الماشية!

فن ترميم الروح

ولأن أصحاب الحالات المرضية النادرة ومنها حالات الأجسام الزجاجية، يفتشون دائماً عن كل الطرق الممكنة والمتاحة التي تمنحهم القدرة على المقاومة والبقاء، فإن بعض هذه الحالات يلتجئ في الكثير من الأحيان إلى استنفار الطاقات الكامنة بداخله من أجل تعويض ما يلمسه من النقص والمرض في نفسه، وهو ما كان واضحاً في الحالات السابقة التي ذكرناها وأيضاً في حالة المصرية (هبة) وهي حالة شهيرة لمريضات العظام الزجاجية في مصر.

ظاهرة العظام الزجاجية.. آلام الحال وتحديات المُحال

والتي شكلت مثالاً واقعياً لرغبة المريض في ترميم روحه من الداخل تعويضاً عن كسور جسده من الخارج؛ فعلى مدار سنوات عديدة، وحتى بلوغها سن السادسة والعشرين من عمرها، ظل جسدها يمثل جسم طفلة في الثالثة من العمر من حيث القدرة على التحمل، حتى أنها لازمت سريرها لأكثر من عشر سنوات متواصلة، بعد أن أشفقت على أمها من حملها، وعندما سُئلت والدتُها عن سبب ما حدث لابنتها، أجابت بأن كثرة الأدوية التي تناولتها خلال فترة الحمل، هي التي أدت إلى إصابة ابنتها بهذا المرض، وفق ما أخبرتها طبيبتها المختصة، وأن الطبيبة كانت قد نصحتها بالإجهاض لكنها قررت الاحتفاظ بمولودتها وتسليم الأمر لله تعالى، وبوفاة الأم بعد فترة من المعاناة والحزن على حالة ابنتها، ازدادت معاناة(هبة)، خاصة بعد فشل أية محاولات لإجراء جراحات عاجلة، بعد أن تبين للأطباء عدم قابلية جسدها لتحمل ذلك، وللحق، لم تستسلم الفتاة لليأس، ولكنها لجأت إلى استغلال مواهبها وخبراتها الفنية التي تعلمتها في فترة الحضانة وعبر فصول محو الأمية، لتعوض أمنياتها المعدومة في أن تكمل تعليمها وأن تصبح طبيبة، ومن ثم أصبحت تجيد بعض الأعمال اليدوية والأشغال الفنية وفنون الرسم والزخرفة، لتعلن لكل من حولها، أنه إذا كان الجسد قابلاً للكسر، فإن الروح أبداً لا تنكسر.

ظاهرة العظام الزجاجية.. آلام الحال وتحديات المُحال

وفي استراليا، قدمت (ستيللا يونج) درساً مشابهاً في التحدي وترميم الروح؛ فبعد أن قرر الأطباء منذ أعوامها الأولى أنها لن تعيش سوى عامً واحدً وفق أقصى التقديرات الطبية،  إذا بها تتجاوز عامها السابع عشر وهي تتحرك بهمة ونشاط على كرسيها المتحرك، لتدرس الإعلام بجامعة(دنكن)، ولتصبح واحدة من أشهر فنانات الكوميديا الاستراليات، إلى الدرجة التي استطاعت معها استقطاب الجماهير الاسترالية لمشاهدة عروضها وفقراتها الكوميدية في السيرك، بل لم تقف عند هذا الإنجاز، حيث تميزت بكتاباتها الصحفية المتميزة في كبريات الصحف الوطنية، وكانت ضمن متفردات نجحن في تغيير قوانين العجزة للأفضل، كما ساهمت في إسعاد ملايين الأطفال من خلال شروحاتها المشوقة لعالم الديناصورات والحشرات في متحف (ملبورن) وذلك قبل أن ترحل بسلام عن عالمنا في عامها الثاني والثلاثين.

اقرأ أيضاً: دراسة: معظم الوجبات الجاهزة في بريطانيا غير صحية

الوقاية قبل المرض

و من جهتها تؤكد منظمة الصحة العالمية ومعها دوائر الطب الوقائي، أن ظاهرة العظم الزجاجي معروفة طبياً منذ القدم، وأن اهتمام الأسرة بالحالة الصحية لأفرادها بشكل عام، يلعب دوراً مهماً في الوقاية من هذا المرض؛ فرغم أن بعض الحالات تلعب الوراثة فيها دوراً رئيسياً، إلا أن هناك حالات كانت أسباب الإصابة فيها إهمال المرأة الحامل في معدلات تناول جرعات الأدوية والمضادات الحيوية وغيرها من المركبات الكيميائية والدوائية خلال فترة الحمل، كما أن هناك حالات كانت التغذية السلبية والخاطئة فيها، سبباً من أسباب الإصابة بالمرض، و من ثم، تنصح المنظمة بضرورة توعية الناس بالأعراض المبكرة والتمهيدية للإصابة، والمتمثلة في زرقة بياض العينين وضعف السمع وتأخر بناء الأسنان، بالإضافة لتراجع نسبة الكالسيوم والفوسفور، وهي مؤشرات توجب سرعة إجراء الكشوف والفحوصات الطبية، وصولاً إلى الحصول على التشخيص الصحيح، ومن ثم، تحديد العلاج الدوائي والجرعات المفضية إلى تقوية الكتل العظمية، أو عدم الاكتفاء بالأدوية، والشروع في دعم العظام بشرائح معدنية داعمة من الداخل لتعوض حالة الضعف العظمي التي يعاني منها المصاب، كما أنه في أحيان أخرى ــ ووفق تقييم طبي ــ يتم اللجوء لعلاجات هرمونية لوقف مفعول الخلايا المسؤولة عن تكسير العظام، ومن ثم منع المزيد من فقدان المادة العظمية مستقبلاً.

وختاماً، تتطلب ظاهرة العظام الزجاجية، طرقاً خاصة في التعامل النفسي والاجتماعي مع المرضى؛ فوفق ما يوصي به الأطباء النفسيون وأساتذة علم الاجتماع، يتوجب التعامل الإيجابي معهم عبر دمجهم أسرياً واجتماعياً ونفسياً، مع محاولة تخفيف معاناتهم من خلال اكتشاف بعض مواهبهم وهواياتهم الخاصة التي تجلب لهم بعض السعادة والمرح، مع التحلي بقدر كبير من الاحتواء وسعة الصدر و الحذر من تسلل اليأس والضجر والشعور بالإحباط للقائمين على رعاية هؤلاء المرضى، سواء في الأسرة أو في أماكن العلاج؛ لأن هذا من شأنه أن ينقل جملة من المشاعر السلبية لديهم والتي تعمل على تأخر حالتهم المرضية وتراجع مشاعرهم الإيجابية تجاه المجتمع والناس.

اقرأ أيضاً: داعية بريطاني يحذّر: وراء المرض حكمة إلهية

اقرأ أيضاً: مرضى السرطان يواجهون تأخيرات قاتلة مع إضراب الأطباء العامين في بريطانيا

اقرأ أيضاً: لأول مرة في العالم.. تجربة اللقاح المنقذ للحياة على مرضى سرطان الجلد في بريطانيا

X