كان مولده في مدينة الكوت العراقية عام 1963، قبل أن يبدأ عهده بالموسيقى والألحان، وخاصة مع آلة العود، بعد أن تخرج من معهد الدراسات الموسيقية ببغداد عام 1987، وحصل لاحقاً على درجة الدكتوراه في (الفلسفة الموسيقية)، ليحصد عدة جوائز مميزة في مجال التلحين والأداء الموسيقي، حتى أنه في بداية تخرجه من المعهد المذكور، وعلى مدار ثلاث سنوات متتالية، استحوذ على مرتبة الشرف الموسيقية عن (أفضل لحن عاطفي في العراق) في الفترة من 1988وحتى 1990 من نقابة الفنانين العراقيين، كما حصل على أكثر من 50 جائزة لعل أهمها جائزة أفضل فنان عراقي عام 1994، وجائزة الأكاديمية الملكية البريطانية عام 1998، وجائزة مهرجان روتردام العربي.
وبفضل هذا التميز الموسيقي، ذاعت شهرته وأصبح ضيفاً دائماً في صالات العرض الموسيقية بالعواصم الأوروبية في باريس ولندن وروما وغيرها، كما استضافت القاهرة أول مركز من مراكز بيت العود العربي، تلك التي تأسست مراكزها التالية في أبو ظبي وبغداد والإسكندرية، والتي ظهر من خلالها شغفه بتطوير فن الموسيقى وتطوير آلاتها، وخاصة آلة العود، كما انتشرت حفلات أوركسترا بيت العود وعروضها في كافة أنحاء العالم، لتبرهن على هذا العطاء الفني المبدع والخلاق لهذا الفنان العربي ذي النزعة الفنية العالمية، والذي لا يقتصر عطاؤه على فن الموسيقى وحده، وإنما يتجاوزه إلى فضاءات الرسم والفن التشكيلي، إلى جانب جهوده الإنسانية في خدمة النازحين وضحايا الأزمات والحروب، باعتباره سفيراً للنوايا الحسنة وللسلام لدى العديد من المؤسسات والهيئات والاتحادات المحلية والإقليمية والدولية.. إنه فنان الموسيقى الجامع للأصالة والمعاصرة الدكتور(نصير شمّه)، والذي أجرت معه أرابيسك لندن هذا الحوار.
بداية ما الثابت والمتحوّل في تقنيات نصير شمه الموسيقية؟
فيما يتعلق بالثابت والمتحول في تقنياتي الموسيقية، نستطيع أن نقول إن الثابت يكمن في التمسك بروح الموسيقى الشرقية وأصالتها، مع توظيف الآلة الشرقية بشكل رئيسي، خاصة العود، باعتباره رمزاً موسيقياً عربياً، يعبّر عن هوية الشرق الثقافية والفنية، ومن ثم، فأنا أحافظ على هذه الأصالة عبر إيقاعات ومقامات شرقية تمثل العمق الموسيقي لهذه المنطقة. أما المتحوّل في تقنياتي فيظهر في استخدامي أساليب متجددة للتواصل مع الجمهور وتوسيع الآفاق التعبيرية للموسيقى الشرقية، إلى جانب أنني أسعى دائماً من خلال استحضار تقنيات حديثة وتوليفات بين المقامات الشرقية والتأثيرات الغربية، إلى إيجاد لغة موسيقية جديدة تجمع بين التراث والانفتاح على العالم، و هذه التحولات ليست نوعاً من التخلي عن الموسيقى الشرقية، بل هي محاولة لإثرائها وتطويرها بشكل يتيح لها التواصل مع المتغيرات العالمية.
برأيك هل فقدت موسيقى الشرق بعض خصائصها لصالح النمط الغربي من الموسيقى؟
بالطبع قد تكون هناك بعض التأثيرات التي خفَّفت من النقاء الأصلي للموسيقى الشرقية، ولكن هذا لا يعني فقدان الهوية بالكامل؛ لأنه فيما يخص موسيقى الشرق وفقدانها لبعض خصائصها لصالح النمط الغربي، يمكن القول إن هذا التحول ظاهرة شائعة في عصر العولمة، بل قد تكون هذه التأثيرات التي أشرت إليها، فرصة لإعادة تقديم الموسيقى الشرقية بطريقة تواكب العصر وتجذب جمهوراً أوسع مع الحفاظ على جوهرها وروحها الشرقية.
الآن الموسيقى أصبحت لغة عالمية منفتحة الآفاق ومشرعة الأبواب.. كيف لنا برأيك في ظل هذا الزخم أن ننطلق بفن الموسيقى إلى آفاق غير مطروقة من قبل؟
في ظل هذا الزخم الموسيقي العالمي، يمكن لنا أن ننطلق بفن الموسيقى نحو آفاق غير مطروقة عبر العودة إلى جذور الثقافة المحلية، واستكشاف العمق الروحي والإيقاعي في تراثنا، مع خلق مساحات موسيقية جديدة تجمع بين أصالة الماضي وابتكارات المستقبل .. العالم اليوم يبحث عن التمايز، والهوية المحلية تشكّل أرضية خصبة لصوت فريد يمكنه أن يفرض حضوره عالمياً إذا ما عُرض بأسلوب حديث يتماشى مع تطلعات المتلقي المعاصرة. ومن الطرق الممكنة أيضاً الابتعاد عن القوالب التقليدية وتقديم الموسيقى كوسيلة سردية تتجاوز الألحان إلى التعبير عن قصص وتصورات بصرية وكونية .. يمكن تحقيق ذلك بدمج الموسيقى مع الفنون الأخرى مثل الرسم والأدب وفنون الأداء؛ لتكوين تجارب فنية متكاملة تجذب الجمهور وتجعله جزءاً من التجربة الموسيقية. كما يمكن استخدام التكنولوجيا لإعادة تعريف الموسيقى الشرقية وفتح قنوات جديدة للتفاعل معها.. الاستفادة من الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال يمكن أن يخلق عوالم صوتية متداخلة تسمح للموسيقى بالتحاور مع أصوات الطبيعة أو حتى الكون مما يفتح آفاقاً لخلق موسيقى تتجاوز حدود ما اعتدنا سماعه وتثير استكشافات جديدة ومفاجئة في عوالم الصوت.
كيف كان استقبال حضورك الموسيقي بالمملكة العربية السعودية؟
استقبال الجمهور في المملكة العربية السعودية كان رائعاً ويمتليء بالحماسة والانفتاح .. وجدتُ شغفاً كبيراً لدى الجمهور السعودي بالموسيقى وتقديراً للموسيقى الشرقية، ورغبة في استكشاف التنوع الفني والثقافي الذي يجمع بين التراث والحداثة .. هذا التفاعل يشير إلى تعطُّش حقيقي للفن واستعداد كبير للتفاعل مع تجارب موسيقية متنوعة مما يجعل تقديم الموسيقى هنا تجربة ملهمة ومثرية.
ماذا ترى في الواقع الفني الجديد بهذا البلد؟
الواقع الفني الجديد في المملكة يشهد تحولاً كبيراً و حركة نشطة نحو تعزيز الثقافة والفنون بمختلف أشكالها .. هذا المناخ الإبداعي المزدهر يعتبر منصة خصبة لتطوير الفنون التقليدية وإدخال عناصر جديدة تضفي طابعاً معاصراً على التراث.. هناك اهتمام كبير بالبنية التحتية الثقافية من مسارح وقاعات موسيقية إلى إنشاء مؤسسات ومبادرات تحتفي بالفنون وتدعم الفنانين. أرى أن هذا التوجه يفتح آفاقاً واسعة أمام الموسيقى الشرقية ويعطيها مساحة للتواصل مع جمهور متنوع ما قد يساهم في إعادة تعريف دور الموسيقى العربية محلياً وإقليمياً.
على ذكر السعودية، استمتعتُ شخصياً بمقطوعتك الموسيقية (بين النخيل) التي قدمتها في الضهران بالمملكة، وكررتُ سماعها مراراً لروعتها.. ولكن كأني بك فيها متأثراً بصوفية تركية موسيقيا.. تتفق أم تختلف؟
أشكرك على كلماتك وتقديرك للمقطوعة ..”بين النخيل” مقطوعة موسيقية كتبتها عام 1994 .. كان هناك طريق على شكل غابة من النخيل بين بغداد ومدينة بابل .. حين وصلت مسرح بابل ارتجلت القطعة بتأثير ما رأيت.. هناك بالفعل روح صوفية تسري في الألحان.. وقد تتوافق مع التأثيرات الصوفية التركية التي تحمل طابعاً مميزاً يرتكز على العمق الروحي والبساطة العذبة في التعبير .. هذا الجانب الصوفي في الموسيقى يمس قلوب المستمعين أينما كانوا، لأنه يتحدث إلى أعماق الروح بلغة يتجاوز فيها الصوت حدود المكان والثقافة. لكنني أعتقد أن التأثير في هذه المقطوعة ينبع من الصوفية بشكل عام وليس من مدرسة معينة.. سواء كانت تركية أو غيرها.. بقدر ما هو استلهام للروحانية المرتبطة بالصوفية كفلسفة موسيقية وفنية.. اخترت أن أجعل للمقطوعة طابعاً شفَّافاً يدمج بين بساطة اللحن وإيقاعاته الهادئة مستلهما من مشهد النخيل الذي يحمل في رمزيته أصالة وهدوءاً يمتزجان بروحانية الأرض وعمق التراث. وأرى أن التمازج بين هذه الروح الصوفية والهوية المحلية لكل مكان، هو ما يجعل العمل فنياً عابراً للحدود.
ماذا عن الطفل والطفولة في إطلالات نصير شمه الموسيقية؟
الطفل والطفولة لهما حضور خاص في إطلالاتي الموسيقية؛ حيث أؤمن بأن الموسيقى يمكن أن تشكل جزءاً مهماً من تكوين وعي الطفل وتذوقه الفني منذ الصغر ؛لذلك صنعنا لهم أعواد وقوانين بأحجام مناسبة لفئات عمرية صغيرة في بيوت العود .. هناك اهتمام حقيقي ونجاحات سجَّلناها فيما يتعلق بالأطفال .. مثلاً عيَّنت أصغر خريج مُدرِّساً في بيت العود بالقاهرة وعمره لا يتجاوز 14 عاماً. الأطفال بطبيعتهم يمتلكون فضولاً وإحساساً نقياً يجعلهم قادرين على استقبال الموسيقى بقلوب منفتحة .. ولهذا أحرص على تقديم أعمال موسيقية تتماشى مع عوالمهم البسيطة الهادئة والمليئة بالأحلام
أي نمط موسيقي يمكن تقديمه للأطفال في هذا الإطار حالاً ومستقبلاً؟
النمط الموسيقي الذي يمكن تقديمه للأطفال يحتاج إلى عناصر محددة؛ كالإيقاعات البسيطة.. الألحان العذبة.. والنغمات المفعمة بالحياة التي تخلق جواً من البهجة والهدوء في الوقت ذاته .. الموسيقى الشرقية يمكن أن تكون مناسبة جداً في هذا السياق؛ حيث يمكن تقديم ألحان تعتمد على مقامات مثل(الحجاز) و(البيّات) تلك التي تمنح الأطفال شعوراً بالأمان والجمال، إلى جانب تعزيز ارتباطهم بالتراث الموسيقي. وفي المستقبل يمكن تطوير مشروع موسيقي متكامل للطفولة يجمع بين العزف الحي وورش العمل التفاعلية التي تسمح لهم بالتعرف على الآلات الموسيقية وتجربتها بأنفسهم.. يمكن للموسيقى هنا أن تتجاوز مجرد الاستماع لتصبح تجربة حسيّة تنمّي خيالهم وتعزز من قدرتهم على التواصل مع العالم من خلال الصوت.
في الختام، كلمة أخيرة .. ماذا تقول؟
أشكر مجلة أرابيسك لندن على هذا الحوار وعلى هذه الأسئلة وأتمنى لأسرة التحرير دوام التوفيق والسداد، وإن شاء الله نكون عند حسن ظن جمهور المجلة والجمهور العربي عموماً فيما نقدمه من فنون الموسيقى وإطلالاتها الأصيلة والمبتكرة والحافظة لتراثنا وهويتنا المشتركة وكذلك لتفاعلنا مع العالم أجمع على اختلاف ثقافاته وحضاراته عبر فنٍ موسيقي يعانق الروح ويتجاوز حدود الجغرافيا .. تحياتي لكم جميعاً.