أدى انهيار قيمة الجنيه الإسترليني ووصوله مستويات قياسية في مقابل العملات الرئيسة إلى انخفاض قيمة الأصول البريطانية، مما يغري المستثمرين الأجانب بشرائها على أمل زيادة قيمتها في ما بعد، مما يحقق لهم هامش ربح كبير.
ومن أهم الأصول التي يعتبرها المستثمرون الأجانب جديرة بوضع ثرواتهم فيها باعتبارها أكثر استقرار وضماناً لزيادة القيمة على المدى الطويل، الأصول العقارية. وفي ظل الاضطراب وعدم اليقين في شأن مستقبل سعر صرف الإسترليني وارتفاع نسبة الفائدة واحتمال تغيير التصنيف الائتماني للدين السيادي البريطاني بالخفض، يواجه المشترون من الخارج ومن البريطانيين السؤال الصعب، “هل الوقت مناسب لشراء بيت الآن”؟
وتختلف الإجابة عن السؤال إذا كنت مستثمراً أجنبياً ثروته بعملة غير الجنيه الإسترليني، أو إذا كنت بريطانياً دخله بالاسترليني.
كما أن الإجابة عن السؤال تتغير بحسب طريقة الشراء، أي ما إذا كنت ستشتري العقار نقداً بواسطة قرض رهن عقاري كما هو المعتاد للمواطنين في بريطانيا، وأيضاً إذا كنت تشتري العقار بغرض السكن أو بغرض التأجير وتحقيق عائد من الإيجار، أو لمجرد حفظ القيمة والاستثمار طويل الأمد.
وتحتاج الإجابة عن هذا التساؤل كذلك إلى تحليل كل التوقعات الحالية في شأن متغيرات قيمة الأصول واحتمالات توجه السوق العقارية البريطانية.
وعلى رغم أن سوق العقار في بريطانيا تعد من أكثر أسواق العقار في العالم استقراراً، لأن معظم البريطانيين يملكون مساكنهم، إلا أن الاضطراب الحالي مع سياسة حكومة رئيسة الوزراء ليز تراس المالية والنقدية يجعل توقع الأداء المستقبلي للسوق في غاية الصعوبة.
المشترون من الخارج
منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وحتى من قبلها حين صوت البريطانيون في استفتاء عام 2016 لمصلحة “بريكست”، تشهد الأصول البريطانية عامة تراجعاً في قيمتها، والمفترض تقليدياً أن يعني ذلك زيادة في إقبال المستثمرين من الخارج على شراء الأصول البريطانية بما في ذلك البيوت والعقارات، لكن ما حدث هو العكس، فقد تراجعت مبيعات العقارات البريطانية للأجانب خلال السنوات الست الماضية بشكل واضح، وعزا بعضهم ذلك إلى فترة أزمة وباء كورونا ثم الحرب في أوكرانيا وما تبعها من عقوبات غربية على روسيا، جعلت الأثرياء الآسيويين يتخوفون من وضع ثرواتهم في دول غربية، بما في ذلك قطاع العقار البريطاني.
لكن هناك أسباباً هيكلية أدت إلى تراجع اهتمام المستثمرين الأجانب بقطاع العقار البريطاني، وأهمها تراجع الثقة العالمية في السياسات الاقتصادية، وهي تلك الثقة التي شهدت ضربة قاصمة مع إعلان حكومة ليز تراس سياساتها الاقتصادية خلال الأيام الماضية، وآخرها ما أعلنه وزير الخزانة كوازي كوارتنغ، الجمعة، من خفوضات ضريبية في الموازنة التكميلية.
اعتبارات معينة
إذا كانت أموالك باليورو أو بالدولار أو أية عملة مرتبطة بالدولار مثل كل عملات دول الخليج العربية مثلاً، فمن المغري أن تشتري عقاراً في بريطانيا الآن مع هبوط سعر صرف الجنيه الإسترليني، ومع ذلك فعليك أن تأخذ في الاعتبار أموراً عدة ومنها:
تقديرات الأسواق أن الإسترليني سيواصل الهبوط ليتساوى مع الدولار وربما يهبط إلى ما دون دولار للجنيه، وبالتالي فربما يكون من الأفضل أن تنتظر حتى بداية العام المقبل لتقتنص فرصاً عقارية أفضل وبكلفة أقل.
زيادة أسعار الفائدة واستمرار التضخم المرتفع قد يؤديان إلى أزمة في السوق العقارية تهوي بأسعار البيوت والعقارات التجارية، وبالتالي فقد تكون فرص الشراء أفضل مع الربيع المقبل، لأنه في حال عدم انهيار السوق ستشهد أسعار العقارات انخفاضاً بشكل أو بآخر نتيجة زيادة العرض على الطلب.
إذا كنت تستثمر لفترة قصيرة ما بين عامين وخمسة أعوام، فعليك أن تفكر في مستقبل قيمة الأصول في بريطانيا في هذا المدى، وحتى الآن تشير تقديرات السوق إلى استمرار الاضطراب وبالتالي عدم ضمانة فعالية الاستثمار، كما أن الاسترليني قد يستمر في التذبذب لفترة طويلة مما يعني استمرار ضعف السوق في حال الحاجة إلى تسييل الاستثمار في العقار.
وطبعاً هناك عوامل أخرى تتعلق بوضع المستثمرين الأجانب أموالهم في بريطانيا سواء في أصول عقارية أو غيرها من الأصول، ومعظم تلك العوامل لن يكون واضحاً قبل الانتخابات العامة مطلع عام 2024، وما ستسفر عنه من نتائج وتشكيل حكومة جديدة.
المشترون في بريطانيا
ويبدو الأمر أكثر تعقيداً للبريطانيين الراغبين في شراء بيت الآن، فعلى رغم أن الموازنة التكميلية يوم الجمعة تضمنت خفضاً موقتاً لضريبة الدمغة العقارية، لتشجيع النشاط في السوق العقارية الذي يتوقع أن يشهد اضطراباً في ضوء ارتفاع أسعار الفائدة وزيادة معدلات التضخم، إلا أنه ليس كافياً لطمأنة المواطنين.
وفور بدء الأسواق بيع الإسترليني بكثافة منذ يوم الجمعة، أعادت البنوك وشركات الإقراض العقاري البريطانية سحب عروض قروض الرهن العقاري التي تقدمها للمقترضين بشكل تفضيلي في مقابل رسوم تدفع مسبقاً.
وبررت البنوك مثل “إتش إس بي سي” و”سنتاندير” شركات عقارية كبرى مثل “هاليفاكس” أن عليها إعادة تقييم تقديراتها لارتفاع سعر الفائدة في المستقبل.
وقبل الانهيار الأخير في قيمة الإسترليني وسندات الدين السيادي البريطاني كانت الأسواق تقدر ارتفاع سعر الفائدة في بريطانيا إلى نحو خمسة في المئة بحلول شهر أيار المقبل.
أما الآن فمعظم التقديرات ترى أن بنك إنجلترا “المركزي البريطاني” قد يكون مضطراً إلى رفع سعر الفائدة إلى نسبة سبعة في المئة أو أكثر بحلول شهر نيسان.
ولأن البنوك وشركات الاقتراض العقاري تزيد ما بين واحد واثنين في المئة عن نسبة الفائدة الأساس لبنك إنجلترا في الفائدة على قروض الرهن العقاري، فإن عروض القروض المخفضة المطروحة كانت في أعلى مستوياتها عند أربعة في المئة.
وبالتالي إذا حصل المشتري على عرض قرض مثبت الفائدة، مع دفع رسوم مقدمة مقابل ذلك لمدة عامين أو ثلاثة أو خمسة، سيتفادى دفع نسبة فائدة متغيرة أعلى خلال تلك الفترة.
والآن ومع سحب المقرضين تلك العروض ينتظر أن يعلنوا إعادة طرح غيرها مرتفعة الفائدة، تحسباً لتوجه البنك المركزي، وإن كانت معظم البنوك وشركات الإقراض العقاري أعلنت خلال اليومين الأخيرين أنه يصعب الآن التكهن وتقدير سعر فائدة محدد، وإنما شبه المؤكد أن 8.3 مليون أسرة في بريطانيا ستواجه ارتفاعاً كبيراً في الأقساط الشهرية لقروض الرهن العقاري على بيوتها التي تسكنها.
وفي المحصلة الأخيرة سيجد من يرغب في شراء بيت الآن نفسه أمام خيارات كلها أكثر صعوبة ومنها:
توقعات ارتفاع الفائدة ستجعل أقساط قروض الرهن العقاري غير محتملة من قبل كثيرين، في وقت تتراجع القيمة الحقيقية لدخولهم بسبب معدلات التضخم العالية.
لا تزال أسعار البيوت تواصل الارتفاع مما يجعل القدرة على زيادة مقدمات الشراء لتقليل قيمة الرهن العقاري صعبة إن لم تكن مستحيلة لكثير من أصحاب الدخول المتوسطة.
زيادة مخاوف عدم القدرة على الوفاء بالتزامات قروض الرهن العقاري، مما يمكن أن يزيد عمليات مصادرة البنوك وشركات الإقراض للبيوت التي يتخلف أصحابها عن السداد الشهري.
ومع ذلك فهناك توقعات بأن كل تلك العوامل التي تعصف ببريطانيا يمكن أن تقود إلى انهيار ما في أسعار العقارات خلال الأشهر المقبلة، وربما مع مطلع العام المقبل إذا استمر الإسترليني في الهبوط، وواصل بنك إنجلترا رفع سعر الفائدة بقوة وتعمق الركود الاقتصادي بشكل عام.
الخبير أحمد مصطفى