بين أزقة المدن البريطانية الهادئة، حيث تبدو الحياة مترفة ومستقرة، تختبئ قصص مأساوية لشباب يجدون أنفسهم بلا مأوى ولا أمل، فخلف جدران المنازل التي يفترض أن تكون ملاذاً آمناً، يهرب مراهقون من واقع قاسٍ مليء بالعنف النفسي والجسدي، ليجدوا أبواب المجالس المحلية موصدة أمام حقوقهم.
هؤلاء الشباب، الذين يجب أن يحظوا بالرعاية والدعم، يُتركون في مهب الريح، يتنقلون بين الأرائك المستعارة أو النُزُل المؤقتة، في انتظار أن يبلغوا الثامنة عشرة، حيث يصبح العبء أخف على السلطات، لكن أثقل على أرواحهم الصغيرة، فكيف تُسلب حقوق هؤلاء المراهقين في وضح النهار؟ ومن يعيد لهم كرامتهم المهدورة؟
تشير أبحاث جديدة أجرتها مؤسسة «كورام للأطفال» (Coram Institute for Children) إلى أن المجالس المحلية في المملكة المتحدة تتعامل مع المراهقين المشردين كما لو كانوا بالغين بلا مأوى، بدلاً من توفير الرعاية المناسبة لهم، وتُظهر الأبحاث أن هؤلاء الشباب غالباً ما يُتركون في مساكن مؤقتة غير ملائمة دون رعاية كافية، مع تجاهل حقوقهم القانونية.
وأوضحت الأبحاث أن بعض المجالس المحلية تعتمد استراتيجيات تُعرف بـ«انتظار الوقت»، حيث تُبقي المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و17 عاماً دون رعاية حتى يبلغوا 18 عاماً، حينها، تصبح التزامات المجالس تجاههم أقل إذا لم يُصنَّفوا كأطفال في الرعاية، وصرّحت الدكتورة كارول هومدن (Dr. Carol Homden)، الرئيس التنفيذي لمؤسسة كورام، قائلة: «الشباب المشردون في هذه الفئة العمرية يفرّون عادةً من ظروف عائلية مروعة تتضمن إساءة نفسية وجسدية، وهم بحاجة إلى دعم ورعاية، وليس مجرد سقف يؤويهم».
ووجدت دراسة أجرتها مفوضة الأطفال رايتشل دي سوزا (Rachel de Souza) العام الماضي أن حوالي 6500 مراهق تقدموا كحالات مشردة في 2022-2023، ولكن العدد الفعلي يُعتقد أنه أعلى بكثير، وأكدت دي سوزا على ضرورة تصنيف هؤلاء الشباب كأطفال بحاجة إلى رعاية، وليس كـ«مشردين».
اقرأ أيضاً: 1.5 مليون طفل بريطاني مهددون في مبانٍ دراسية متهالكة!
من بين القصص التي وثقتها مؤسسة كورام، قصة مينا، التي أُجبرت على مغادرة منزلها العائلي بسبب الإساءة النفسية والجسدية، فرغم طلبها الدعم من المجلس المحلي، تم رفضها مرتين، مما اضطرها إلى التنقل بين منازل الأصدقاء وهي تحاول متابعة دراستها، وبفضل تدخل مؤسسة كورام، تمكنت مينا من الحصول على حقوقها ودعم تعليمي وسكن آمن، وهي الآن تدرس في الجامعة.
قصة أخرى تتعلق بسادي، التي أُجبرت على الإقامة في نُزُل للمشردين في سن 17 عاماً واستمرت هناك لأربع سنوات دون أي دعم إضافي، تقول سادي: «شعرت بالضياع، وكنت أتنقل بين دفع فواتير الطاقة أو شراء الطعام»، ولاحقاً، علمت من عامل اجتماعي بحقوقها بمساعدة مؤسسة كورام، وتقدمت بأثر رجعي للحصول على الرعاية.
اقرأ أيضاً: الجيش البريطاني: عجز غير مسبوق والآلاف غير قادرين على الانتشار
وأشارت مؤسسة كورام إلى أن تدخلاً مبكراً ودعماً أفضل يمكن أن يمنع انهيار العديد من الأسر، مما يقلل من عدد الشباب الذين يجدون أنفسهم بلا مأوى، مضيفةً أن العديد من هؤلاء الشباب يجهلون حقوقهم، مما يجعلهم عرضة للاستغلال والإهمال.
هذا وأشار متحدث باسم وزارة التعليم البريطانية إلى جهود الحكومة لإصلاح نظام الرعاية، قائلاً: «نعمل على تنفيذ إصلاحات جوهرية لرفع معايير رعاية الأطفال وضمان مستقبل أفضل لهم».
وفي سياق آخر، كانت قد كشفت تحقيقات أجرتها صحيفة «الغارديان» مؤخراً أن أكثر من 1.5 مليون طفل في إنجلترا يتلقون تعليمهم في مبانٍ مدرسية تعاني من تدهور كبير، مما يبرز عقوداً من ضعف الاستثمار في البنية التحتية العامة، وامتدت الدراسة التي قامت بها الصحيفة لتشمل مستشفيات ومحاكم إلى جانب المدارس، حيث أظهرت الحاجة الماسة لإصلاح آلاف المباني، والتي يشكل بعضها خطراً على سلامة الزوار والعاملين.
ومن بين الحوادث التي أوردتها التحقيقات، إخلاء مدرسة في مقاطعة «كمبريا» نتيجة خطر انهيار الأرضية، بينما في مستشفى في «سوتون»، تم العثور على نوافذ مثبتة بشريط لاصق وأرضيات يغمرها الطين.
وفي تعليق على هذه الأوضاع، صرّح «جيفري كليفتون-براون»، رئيس لجنة الحسابات العامة متعددة الأحزاب، قائلاً: «لطالما نبهت لجنتنا إلى العواقب الوخيمة للقرارات قصيرة الأجل التي أدت إلى إهمال البنية التحتية العامة»، مشيراً إلى أن «صيانة المباني العامة ليست رفاهية مؤجلة، بل ضرورة لتفادي مشكلات خطيرة وتكاليف إضافية متزايدة».