مقابلات
العراقي مؤيد الحيدري لأرابيسك لندن: نشأتُ في بيت جدرانه من كتب، والرسم والإذاعة شغفي!
نشر
منذ شهرينفي
192 مشاهدة
حاوره: محسن حسن
في مرسمه المغترب المؤثث بالالوان والكتب والأفكار، حيث يلتقي الحلم بالواقع، يبرز التشكيلي الأديب، والإذاعي الهاديء (مؤيد الحيدري) عزيزاً كنجمة تتلألأ في سماء الإبداع.. يحمل في قلبه، إرث وطنه العراق، الذي يستمد منه زخم أفكاره وألوانه و رسومه، تلك التي تعكس مشاعر الفراق ونوازع الحنين؛ فكل تخطيط أو ضربة فرشاة، تسرد قصة، وكل إطلالة إبداعية، تحكي ذكرياتٍ تتنقل بين أزقة الطفولة وشوارع الغربة؛ فهذا العزيز، ليس عاكفاً على الألوان فحسب، بل ينسج معها الكلمات والقصائد ببلاغةٍ آسرة ، معبرة عن آلامه وآماله وأفكاره، المجسدة لقضايا الوطن وهموم الأحبة.
كإعلامي، يُعد جيله الراقي، حلقة وصل بين الثقافات، كما تُعد خبرته في استكشاف الفنون والحضارات والشخصيات، جسراً مُعيناً للعديد من الساعين للظهور في عالمٍ يعج بالضغوط والأزمات. وفي جميع حواراته الإذاعية مع أهل المجد والسمو، تُشرق دوماً شمس جديدة للإنسانية، تُضيء الطريق، وتُذكِّرُ الجميع، بأن الفن والأدب والإعلام الرصين، هي الرابط بين الثقافات والشعوب، مهما تباعدت المسافات، أو تمنّعت أحلام الأمن والسلام بين الجيران..
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الإعلامي والإذاعي المعروف(مؤيد الحيدري) المقيم حالياً في الولايات المتحدة، عمل مع راديو سوا وقناة الحرة في العاصمة واشنطن منذ عام 2015، وقبلها عمل لنحو عقدٍ ونصف في إذاعة أوروبا الحرة في العاصمة التشيكية براغ، وقبلها في إدارة مكتب الإذاعة في بغداد، فضلا عن إنجازه خلال تلك المسيرة، آلاف التقارير الإذاعية المتنوعة والحوارات المعمّقة مع شخصيات مؤثرة ومتخصصة في مختلف المجالات والحقول.
أرابيسك لندن أجرت مع الحيدري هذا الحوار حول عراق الأمس واليوم، و عراق المستقبل أيضاً.
* بداية، كيف ترى العلاقات العراقية العربية في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة؟
ــ علاقات العراق السياسية بالدول المجاورة وخاصة العربية منها تاريخية، وأهميتها الراهنة تحتل مكانة قصوى في سلم العلاقات الدولية والإقليمية التي تبدو متشابكة في ثوبها المتجدد من حيث تنوع الأدوات والآليات والمفاهيم والمصالح.
ــ لقد مر العراق بمراحل وعقود من القطيعة والارتباك مع هذه الدول والعالم أجمع، بسبب الحروب، وقد تبدت ذروتها إثر غزو النظام السابق الكويت، وقبلها الحرب مع إيران، هذه الأوضاع المأساوية في وقعها ونتائجها أثرت بشكل كبيرعلى علاقات العراق الدولية، رغم أنه بلد مؤسس لجامعة الدول العربية، ومن أوائل الدول الموقعة على ميثاق عصبة الأمم المتحدة، لذا يصعب تحييده جانباً أواستثناء تأثيره السياسي على قضايا المنطقة وشؤونها، ويمكنني القول إنه بعد أحداث العام 2003، وسقوط النظام، دخل العراق مرحلة ً مربكة من تقاطع وتداخل مصالح القوى المؤثرة فيه وفق أسباب وأهداف مختلفة، منها ما اتخذ نشاطا مسلحا بعنوان (مواجهة الاحتلال)، وأخرى اقترنت بتسلط قوى جديدة متنوعة النوايا على إدارة الدولة، فيما اجتذبت المرحلة عصابات احترفت أعمال التخريب والإرهاب والعدائية وإثارة النعرات الطائفية، فضلاً عن تنازع الشعارات والمصالح، وهو ما أدى مجملاً إلى أذى بالغ أصاب العراقيين، وإلى تقليص علاقاتهم بمحيطهم الإقليمي والدولي.
* وكيف تجد علاقات العراق الخارجية خلال السنوات الأخيرة؟
ــ رغم مأساوية ما تعرض له العراقيون خلال العقود الماضية، وخاصة العقدين الأخيرين، أرى أن العراق بدأ بتصحيح وضع عربته على سكة المصالح المتبادلة، كما أجد أن دول الجوار, عربية ً كانت أو أجنبية (وأقصد هنا إيران وتركيا)، أدركت أن هذا البلد بثقله البشري والتاريخي والاقتصادي النوعي، يشكل أحد العناصر المؤثرة والشريكة في التعاطي السياسي والاقتصادي القائم على تبادل المصالح. وأقولها بصراحة: نعم العراق الآن ربما يَعد بمستقبل أفضل، خاصة إذا ما نجح في تجاوز العلل الداخلية المرتبطة بالمنظومة السياسية والإدارية الحاكمة، والتخلص من أمراض الفساد والمحسوبية والمنسوبية والطائفية المقيتة التي تعيق التطور العصري المطلوب، والذي يأمله العراقيون هدفاً مرتجى لحياتهم.
* ما تقييمك للعلاقات العراقية السعودية؟ وكم هي مهمة لتوازن علاقات بغداد/طهران؟
ــ يمثل العراق والسعودية مركزي ثقل مهمين في المنطقة، تجمعهما علاقات تاريخية واجتماعية أصيلة وجوهرية كبلدين وشعبين، إلا أن هذه العلاقة تعرضت لضرر كبير خلال العقود الأخيرة جراء حرب السنوات الثمان، وتأزم الأمور بشكل دراماتيكي على أثر قرار الرئيس السابق صدام حسين المتهور باحتلال الكويت، وهو ما أطاح بالعلاقات التي كانت مثالية بين بغداد والرياض، وأربك وزلزل العلاقات العربية إجمالا حينذاك، ولكن ما يسعد القلب ويريح الضمير ويدعو للتفاؤل اليوم، أن هناك نفساً جديداً في الأفق بين القيادة في كل من البلدين، كما أن هناك شعوراً عاماً الآن، بأن النوايا بدت أكثر وضوحاً وأكثر حرصاً على إثراء العلاقة وترسيخ دعائم التعاون المشترك، وخاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهنا أستحضر ما قاله ولي العهد السعودي الأمير (محمد بن سلمان)، لرئيس الوزراء العراقي الحالي (محمد شياع السوداني) خلال مكالمة هاتفية جرت بينهما، في إشارة لعمق العلاقة الكبيرة مع السعودية، ودعني أقول (السعودية الجديدة) الواعدة بتأثير مهم وخطير وكبير وإيجابي في المنطقة، حيث أشار السوداني أن ولي العهد السعودي قال له نصاً (أنا ووزرائي اعتبرنا مستشارين لديكم أو لديك ونحن جاهزون للعون وإبداء الرأي والنصح)، وهذا التعبير في الحقيقة كان نادراً وغير مطروق ــ للأسف ــ في العلاقات العربية بشكل عام، ولكنه هنا، ينم عن وعي جديد وعن نظرة معاصرة مستشرفة للمستقبل، تدرك أن سعادة شعوب المنطقة وتطورها وازدهارها، مرهون جميعاً بوجود مثل هذه العلاقات الحميمة والصادقة والمخلصة في الوصول نحو تحقيق نتائج أفضل لكل الأطراف المعنية في المنطقة، والخلاصة أن العلاقات العراقية السعودية اليوم أفضل بكثير، وتنبني على أسس متينة من المصالح المتبادلة فضلاً عن الروابط بين الشعبين حيث يجمعهم الدين واللغة والثقافة وعراقة الأصول وعمق الصلات التاريخية، وكل ما أتمناه أن تزداد هذه العلاقة رسوخاً، وأن تتجاوز أية عقبات مستقبلية قد يضعها البعض من أجل إيقاف هذا التطور المرتجى.
* كمثقف عراقي كيف استقبلت التقارب السعودي الإيراني؟ وما توقعاتك لمستقبل هذا التقارب؟
ــ بصفة عامة، أميل إلى تأكيد رأي يقول بأن “الدين لله والوطن للجميع”، وبالتالي فإن مزج هذه المفاهيم ودمجها بطريقة متطرفة، تطيح بفرص نجاح وتطور الكثير من الدول ومجتمعاتها، شخصيا أتمنى أن أرى إيران والسعودية والعراق وتركيا وغيرها من الدول المؤثرة في المنطقة، متجانسي الفهم لمصالح شعوبهم، وفي نفس الوقت لمصالح المنطقة، وبما يحفظ كرامة كل بلد، و يعزز التعاون المشترك والسعي لمستقبل أفضل لشعوبنا، وهو ما نؤمن به ونتمناه، وآمل أن تتبناه الأجيال المتطلعة إلى الترابط والتماسك الإقليمي والدولي، حالاً ومستقبلاً.
* برأيك ما الذي يخسره الاقتصاد العراقي بسبب هجرة عقوله ومفكريه وقواه الناعمة؟
ــ هجرة العقول والكفاءات هو جرح نازف واستنزف الكثير الكثير من طاقات العراق الإبداعية؛ علماً وثقافة وطباً وفناً وهندسة، وأعتقد أنها الخسارة الأكبر التي مرت بالعراق منذ الحروب والأزمات السياسية ومطاردة المنتسبين لأفكار وأحزاب معينة، وهذا للأسف كان قائماً على مدار عقود، وبمراحل مختلفة وكثافات متباينة، ووفق طبائع ومراجي المواسم السياسية في هذا البلد، لقد فقد العراق مئات الآلاف من الكوادروالكفاءات العلمية والفكرية الثمينة تمثل بقيمتها الاجتماعية والعصرية وبمنطق الموارد البشرية، ثروات هائلة لا يمكن تعويضها، وربما تعلمون أن التعليم في العراق كان متطوراً بشكل سابق ومتقدم عن أغلب دول المنطقة، وكان هذا البلد يتباهى بريادته في تـاسيس الكليات والمعاهد والجامعات العلمية التخصصية، منذ عشرينيات القرن العشرين، إذ كانت المناهج والإدارة ونظامها التعليمي محكَّمة وتقترن بمرجعيات لأفضل جامعات العالم، الغربية منها على وجه الخصوص، وبالتالي، فإن خسارة تلك الطاقات الخلاقة يمثل برأيي خسارة فادحة ونزفا موجعا صعب التعويض، رغم تجدد الآمال بعض الشيء بتلافي الخسارة ومحاولة التعويض لبعض ما فقدته البلاد من تلك الطاقات، إلا أني أشعر، صراحة، بأسى وقلق، نظراً لتدني مستوى التعليم الجامعي في العراق(بشكل عام وليس مطلقاً) وعدم مجاراته خطوات التطور العلمي والبحثي والتدريسي في العالم، ودمج السياسات التعليمية باحتياجات المجتمع والتحديث الذي يكاد يشمل مختلف نواحي الحياة المعاضرة، بما يخدم حياة الناس وينعكس على تطور المجتمع، وليس مجرد إنجاز دراسات ذات نفع شكلي آني، ورغم أن فقدان الكفاءات خراب يصعب تعويضه، مع ذلك فالأمل يقترن بجدية الأجيال الجديدة، وفي سياسة تعليمية محدثة وراقية، والتوأمة مع الجامعات والمراكز البحثية العالمية الرصينة، والأهم من كل ذلك، وجود سياسات حكومية تُحسن إدارة الموارد البشرية للبلاد بشكل جيد وخلاّق.
* كإعلامي مخضرم ، كيف تقيّم ُ محطات الإعلام العراقية المسموعة منها والمرئية اليوم؟
– في الحقيقة لا أجد ما أتمناه كإعلامي واكبت التطور والتحديث في تقنيات وأساليب ومفاهيم الإعلام الإذاعي والمرئي، في أغلب القنوات التي أتابعها(وهي بأعداد كبيرة نسبيا بعد انفتاح الأجواء عقب التغييرات في نيسان 2003) باستثناء تلك التي تعتمد على طاقات متخصصة وكفاءات متطورة ومحدّثة لمقدرتها وأفكارها وفلسفتها وأدواتها الإبداعية في الفضاء الإعلامي، وبالمفهوم العام يمكن القول بأن أغلب منصات الإعلام العراقي تنتمي اليوم إلى هويات حزبية وطائفية وعشائرية ومناطقية ضيقة! بل إن العديد منها يمثل إعلاما خاضعا لتوجهات سياسية يتحول معها الخطاب الإعلامي- مع الأسف- إلى وسيلة ابتزاز و ترويج لأهداف مصلحية ضيقة، وليست مهام اجنماعية وفكرية لتنمية الوعي وزرع مفاهيم التكاتف والبناء والمسؤولية المشتركة؛ وهذا يتبدى في أن أغلب الغث من الشاشات العراقية يتسم بالتقديم الضعيف والعرض البائس، والمحتوى الهابط، وبأدوات ومفردات ساذجة، وما يقلقني كمشاهد وإعلامي ، هو أنني أواجه عملية تجهيل موجهة لي ولآلاف المشاهدين، بعكس منصات إعلامية أخرى، تجيد تقديم المعلومة والفكرة والرأي وتحث المرء على إنضاج القرارات وتطوير أدوات التفكيرالبشرية، والحث على التفكير بإيجابية بناءة.
* إلى أي حد أنت راض عن الصوت الإعلامي لعراقيي المهجر؟
ــ يصعب إعطاء هوية للإعلام العراقي المهاجر، رغم سهولة التفريق بين ما يُبث من داخل العراق وما يُبث من خارجه، إذ تمتلك المحطات التي تبث من الخارج مرونة وحرية أكثر في طرح المواضيع والأفكارومناقشتها، ومن الغريب حقاً أن القاسم المشترك بين جميع المحطات والمنصات الإعلامية من داخل أو خارج العراق، اعتمادها في تطبيق مفهوم الحرية الصحافية والإعلامية، وسائل النقد الجارح والانتقاص والإيقاع بالآخرين، فضلا عن شيوع لغة الشكوى والاتهام كسبل لاجتذاب المستمع والمشاهد على السواء! فهناك إلحاح ولعب دائم على وتر التأسي والتباكي والاستعطاف والتنكيل بالآخر المختلف، بل قد يصل الأمر إلى استخدام مفردات بذيئة للتقليل من شأن هذا الآخر، وهذه أمور مسيئة غير محبَّذة وليست جديرة بالاحترام، لأنها لا تعدو عن كونها توظيفاً شخصانياً للمنابر والمنصات والمحطات، بعيداً عن الاهتمام بالشأن العراقي العام.
* لكن برأيك.. ما الناقص في هذا السياق على مستوى؟
ــ بصراحة شديدة، نحن في المهجر نفتقد رصانة الإعلام المتخصص، كمناقشات لأطاريح بحثية، وشؤون اجتماعية أكاديمية وعلمية جوهرية، وبرامج ذات قيمة ثقافية ومعرفية تهم المتلقي العراقي وتفيده، بدلاً من تغليب المعارك الخطابية والمناكفات المثيرة، والغير مجدية، وحتى القنوات الممولة حكومياً (التابعة لشبكة الإعلام العراقي)، أخشى القول إنها تحولت مع الوقت إلى بوق للحكومة، كما تعودت من قبل أجيالٌ على خطاب الحزب الواحد والقائد الأوحد الأبدي، وهذا خلط مقلق بين استقلالية المنظومة الإعلامية الوطنية، وتطويعها لتكون خادماً ومادحاً للتوجهات والأهداف الحكومية فحسب، بشكل يظهر فيه المسؤول الأول والوزير أو رئيس الدولة وكأنه المتفضل وولي النعم، وليس موظفا حكوميا يقوم بواجبه لمواطنيه وبلده على أحسن وجه ممكن كما هو مرتجى منه، وهذه برأيي إحدى علل أغلب المؤسسات الإعلامية والصحفية العربية وليس العراقية فقط، وهو ما يستلزم مراجعة مدققة لحقيقة وجوهر الدور الإعلامي البنَّاء.
اقرأ أيضاً: سوناك لرئيس الوزراء العراقي: ندعم جهودكم في تطوير الاستثمار
* بعد أكثر من عقدين على سقوط النظام ببغداد ، هل نجح العراق في دحر الطائفية؟
ــ أتذكر كل ما حدث في نيسان 2003 وقبل ذلك وبعده، (وأنا الذي عشت حياتي حتى ذلك الحين في بغداد، نشأت و تعلمت ودرست وعملت وتزوجت وأنجبت وأقمت المعارض، أنا وزوجتي التشكيلية المعروفة سلمى العلاق، وشاركنا في الفعاليات الثقافية والاجتماعية المختلفة)، لقد رافق احتلال بغداد وإسقاط النظام فيها، اندلاع أزمات عصابية لدى البعض من الناس، غذتها المفاهيم الطائفية المريضة التي لعب عليها الكثيرون من داخل وخارج البلاد، بل إن البعض ربط بين تغيير النظام واحتلال العراق بمفهوم الطائفية والمصالح الفئوية الخاصة، وفي اعتقادى أن الطائفية مرض خطير يصيب المجتمعات وسرطان يصعب اقتلاعه من الجذور، خصوصا في مراحل انعدام الوزن أمنيا وإداريا في أي مجتمع وحيثما كان, لذا فإن الحكمة المرجوة من القيادات والإدارات الوطنية والنزيهة، هي أن تجنّب شعوبها هذا المرض وتتفادى هذه العلّة، لقد أثّرت الطائفية كثيراً في بلدي، وأساءت لكل الطوائف بالمناسبة، فالجميع تم استهدافه، والكل تحول إلى ضحية لهذا المرض البشع الذي أرجو أن تتعافى منه شعوبنا ومنطقتنا، وما أريد أن أشير إليه وأؤكد عليه في هذا السياق، هو أنه على المستوى الشعبي في العراق، تعافت أغلب شرائح المجتمع من هذه العلّة، ولكن ما ألاحظه هو أن فرسان ما يسمى بالسياسة العراقية حالياً، هم الذين يلعبون بالطائفية، ويوظفونها كأداة لأهدافهم؛ بدءاً من المعارك الانتخابية ووصولاً إلى مصالح التعيينات الحكومية، والامتيازات التي يحصدها أبناء هذه الطائفة أو تلك بحسب الرأس الذي يقود، ومن ثم، فأمثال هؤلاء السياسيين، هم من يتسببون في إشعال نيران المخاطر الكبيرة التي تواجه المواطن العادي، الذي هو أكثر نقاءً وبراءة ممن يلبسون لباس السياسة والحرص على المجتمع، بينما هم في الحقيقة ينطوون في داخلهم على سم دفين؛ طائفي، فئوي، مناطقي، مريض حقيقة، وأنا لا أخفي اتهامي هؤلاء بإثارة الطائفية بجيوشهم الإلكترونية واستغلالهم الخبيث لمواقع التواصل الاجتماعي لإثارة هذه النوازع يومياً، لكني من جهة أخرى، أشهد بأن مواطني العراق أنزه وأنظف وأقدر على مواجهة هذه الملاعيب، ودحر أساليب تجهيل الرأي العام ودفعه إلى مناطق الاختلاف للوقوع في بؤر الخلاف! وعموماً، الطائفية الآن تكاد تكون اندثرت على صعيد العواطف الشخصية والجمهور العام البسيط، ولكنها ما تزال حية ويقظة في قلوب ودواخل بعض السياسيين الذي يلعبون بدماء الناس وأمنهم من خلال هذه الأدوات.
اقرأ أيضاً: الاستثمار والطاقة على طاولة الحوار البريطاني العراقي
* ما الذي يعنيه استهداف الكوادر الإعلامية في العراق بالنسبة لك؟ وهل لا تزال التهديدات الإعلامية تطالهم في الخارج؟
ــ أنا شخصياً من الجيل الذي تعرض لمحاولات التهديد والاختطاف والاغتيال، كما أني فقدت ثلاثة من أعز الزملاء والزميلات في مكتب الإذاعة الذي كنت أديره في العراق بعد 2003 (إذاعة أوروبا الحرة/ إذاعة العراق الحر)، حيث اغتال الارهابيون والمسلحون المنفلتون هؤلاء الصحفيين المخضرمين، وهم كل من المذيعة التلفزيونية المشهورة(خمائل محسن)، والتي اختطفت عام 2007 من قبل عناصر القاعدة، لمدة يومين، ثم عثرنا عليها جثة ممزقة في إحدى المناطق السكنية في كرخ بغداد. والزميل الآخر هو الصحفي الناشط (نزار الراضي) مراسلنا في محافظة ميسان الجنوبية، حيث قتله مسلحون جهارا وفي وضح النهار في أحد شوارع مدينته العمارة بعد انتهائه من ورشة عمل صحفية، ولم يُلق القبض على القتلة حتى الآن! أما الزميل الثالث العزيز فهوالزميل (الدكتور محمد بديوي الشمري) والذي تولى إدارة الإذاعة بعدي في سنة 2014 ، وقُتل على يد مسلحين تابعين للحرس الخاص بالمنطقة الرئاسية في منطقة الجادرية ببغداد، حيث كان يقع مقر الإذاعة، نتيجة خلاف ثانوي، كما اختطفت قبل ذلك زميلة أحرى من مراسلينا، هي (جمانة العبيدي) لفترة زادت على الأسبوع قبل أن يطلق سراحها من قبل مسلحين، و تعرضت أنا شخصيا أيضا لمحاولة اختطاف في تموز 2007 بينما تلقى عدد من زملائي المراسلين رسائل تهديد بالقتل والتهجير، ما اضطر بعضهم إلى ترك مناطقهم ومغادرة سكنهم خشية القتل!
* وكيف كنتم تتعايشون كإعلاميين وكصحفيين مع هذه الأجواء المتأزمة والخطيرة؟
ــ كان موسم استهداف الصحفيين من المواسم المرعبة لكل المواطنين وبالذات الفئة المستهدفة، لأننا لم نكن نعرف مطلقاً من الذي يستهدفنا؟ ومن هو عدونا؟ ولماذا يستهدفنا؟، فأنا صحفي ملتزم في عملي ومستقل في تخصصي ولا أمثل أية جهة سياسية أو فئة معينة في الواقع السياسي، لكن كان هناك من يستهدفني بعدة عناوين وأسباب خاصة به!، لقد واجه الصحفيون العراقيون مداً دمويا شرسا وتهديدا متناميا بالقتل بمختلف الأساليب، خلال الأعوام التي تلت 2003، وقد نال من حياة المئات منهم بينما أصيب وتعوق أضعافهم.
وقد كان القتلة يتنوعون بعنواينهم وخلفياتهم ودوافعهم للقتل وتصفية الصحفيين العاملين في مختلف وسائل الإعلام الأجنبية والمحلية، فهناك المنتمون لتنظيمات متطرفة كالقاعدة وداعش، ممن يستهدفون أي صحفي يعمل أو يتعاون مع جهة صحفية أجنبية أو لا تلائم مزاجهم الخاص ورغباتهم، وهناك من يعتبرون هويتك الاجتماعية كفيلة بوضعك على قوائم الاغتيال والتصفية الجسدية، وهناك من يجعل من صوتك العادل وقدرتك على فضح الحقائق والكشف عن الفساد وجرائم الشأن العام، سبباً لنفس المصير الدموي المؤلم للشخص نفسه أو لاقربائه ومحبيه. وأمام هذا اللاوضوح في العداء والأعداء، عشنا سنين طوال من القلق والخوف والرعب، حتى أننا كنّا نجتهد ونبدع في التخفي والمناورة من أجل التخلص من هذا التهديد، وهذه الفترة كانت ما بين الــ 2003 وحتى الــ 2015، ولا تزال هناك بعض ملامح التهديد التي من الممكن أن تنفذها جهات وميليشيات ومجاميع مسلحة تأتمر بإمرة سياسيين وأحزاب أو منتفعين مستعدين لتصفية أي صوت يختلف معهم أو قد تجرأ وأشار إلى مصلحة ما تخص هذه المجموعة أو تلك، فالتهديد قائم، والخشية ما تزال تراود بعضنا من أن الوضع الأمني رغم كل التحسن الملموس والحمد لله، ما يزال غير قادر على تغطية وتحييد كل الجرائم التي تم تنفيذها على مستوى الاغتيالات والتصفيات الفردية، أو الوصول إلى حلول أو القبض على الجاني، والأهم من الجاني الفردي، هو تحديد من يقف وراءه ويدفعه لتنفيذ الجريمة! .
* كفنان تشكيلي، ما ملامح المسار الفني الذي ارتضيته لنفسك؟ وكم شكّل التراث العراقي من مساحاتك التشكيلية واللونية؟
ــ الفن التشكيلي بالنسبة لي كان شغفاً مبكراً جداً ومقترناً بشغف آخر مواز هو حب الأدب والقراءة، وذلك لأني من عائلة كتبية إمتهن أجدادي الوِراقة، ويعود تأسيس مكتبتنا الرائدة (الأهلية) في شارع المتنبي ببغداد إلى العقد الثاني من القرن العشرين، لذا فقد نشأت في بيت جدرانه من كتب، وانفتحت عوالم المعرفة والأدب والثقافة أمامي مبكرا، وقد بدأ الرسم أيضا مرافقاً للحرف الأول الذي تعلمته، ولدي حتى الآن بعض الرسوم والتخطيطات التي تعود إلى نصف قرن أو أكثر، تنم عن موهبة مبكرة في هذا المجال، ومع تدرج نضجي الاجتماعي والفكري، تطورت هذه الموهبة والملكة الفنية، وكان للوعي الثقافي الذي صاحب مسيرتي كإنسان ودارس، دور في الاحتفاظ بشغف الرسم واتخاذه أداةً للتعبير، إضافة للكتابة والشعر والإعلام، وكان أن أقمت معرضاً شخصياً في السنة الأخيرة من دراستي الإعدادية, وكان ذلك خلال شهر تشرين أول/أكتوبر عام 1969م، وضم المعرض وقتها ستاً وخمسين لوحة، وكان معرضاً مفاجئاً ومباغتاً لبعض الفنانين والمتابعين، ومنبئاً لهم بأن الشاب صاحب اللوحات لديه بعض الخصوصية الفنية التي يتميز بها عن غيره. أما بخصوص المنطقة الفنية فلم أتحدد بنمط جامد بل حاولت أن أطور أدواتي في التعبير عن الرأي والموقف بالتخطيط والرسم واللوحة كما كنت أرسم الكاريكاتير، ونشرت لي العديد من رسوماته بمواضيع مختلفة بالصحافة العراقية، ثم كان أن أقمت بعد ذلك بعض المعارض فضلا عن المشاركة في معارض جماعية داخل وخارج العراق.
* جمعتك بزوجتك الفنانة التشكيلية سلمى العلاق بعض أنماط الفن والتشكيل خلال الثمانينيات.. كيف كان هذا التعاون؟
ــ نعم، في مطلع الثمانينيات، انتهجت، مع زوجتي الفنانة سلمى العلاق، نمطاً فنياً وتشكيلياً خاصا يتمثل بتوظيف الرسم والتصميم في تزيين القماش وإعطائه قيمة جمالية ودلالة معنوية كزيٍ ولباس، بما يمكن تسميته (لوحة تمشي) وهو العنوان الذي شكل مئات من قطع الأزياء والعباءات والفساتين الموشاة بالتصاميم والكلمات والنقوش الحروفية التي تحمل معان ودلالات تهم السيدة التي ترتديه! وهو ما أصبح بعد ذلك ما يشبه الموضة العراقية خلال الثمانينيات والتسعينيات وما بعدها، وفي رأيي أن (اللوحة التي تمشي) تمنح الرسم الفني أبعاداً حيوية وإنسانية حيث يمكننا أن نرى اللوحة ضاحكة ومبتسمة، جالسة وراقصة بفعل حركة من ترتدي ذلك الثوب الموشى بالقصائد والزخارف والتصاميم الملونة، وقد أثنى الكاتب والأديب والفنان الكبير(جبرا إبراهيم جبرا) على تجربتي هذه، عندما حضر أحد معارضي في بغداد عام 1994، وكتب معبراً عن تقديره للتوجه في إثراء الزي كي يكون عملا فنيا، وأوضح في كلمته أن ما قام به مؤيد الحيدري لم يأت من فراغ، وإنما هو منتم ٍ إلى تحديث التراث العراقي الشعبي والمعرفي، خصوصا أن الكثير من أعمالي ــ وما يزال ــ موشَّى بالقصيدة والبيت الشعري والكلمة الحروفية التي تضيف بعداً تشكيليا جماليا من ناحية، وقيمة معنوية ودلالية من ناحية أخرى.
* كيف وجدت وقع أعمالك الفنية تلك عند عرضها على الجمهور الأمريكي والغربي؟
ــ لا خلاف على أن الفن، رسماً ومسرحاً وموسيقى ونحتاً…إلخ، هو لغةٌ إنسانية لا تعرف الحدود، وهو برأيي من أفضل الرسل الذين تتبادلهم الشعوب للتعرف على بعضها البعض، وأمهر السبل لإثراء ثقافات المجتمعات المختلفة، وشخصيا كان الرسم بالنسبة لي هو مفتاح هذه الأدوات التي سعدت أن أقدمها في أحيان محدودة، للجمهور الغربي، فضلا عن الجمهور العربي والعراقي، وخصوصاً هنا في الولايات المتحدة الأمريكية، وقبل ذلك في أوربا ومنها براغ بجمهورية التشيك، حيث شاركت في معارض متخصصة هناك، وأيضاً في لندن صيف 2023 حيث قدمنا معرضا مشتركاً، أنا وزوجتي، كل ٌوفق أسلوبه وطريقته ولغته ومواده، فرغم أننا نعيش كزوجين منذ أكثر من أربعين عاماً، إلا أننا نحتفظ بخصوصيتنا الفردية الفنية بحسب ميولنا وثقافتنا وبصماتنا وتواقيعنا، وعلى كل حال، العمل الفني العراقي إذا كان من إنتاجي أو من إنتاج سلمى، هو رسالة من ضمير بشري مفرد، لكنه يعبر عن بيئة وثقافة ومجتمع، ومن ثم، فإن المتلقي الأجنبي نجده مرحباً ومتفاعلا لأنه يدرك أن هذه الأعمال بأصالتها تمثل هوية مختلفة عن هويته، وبالتالي فهو يضيف إلى معارفه وعواطفه جرعة جديدة من جماليات وأفكار تحمل بعداً ثقافياً وتراثياً مغايراً لما لديه، لذا كانت أعمالنا تجد صدى وتأملاً عميقاً، من الجمهور الغربي فضلا عن إثارة الأسئلة والاستفسارات للاستزادة حول المعاني والدلالات التي تحملها لوحاتنا المعروضة.
* بعد مئات الحوارات الصحفية التي أجريتها مع ضيوفك.. ما الهم الإنساني الأكبر الذي وجدته مستحوذاً عليهم ومشتركاً بينهم؟
ــ شخصيا أجد أن الحوار الثنائي هو أفضل السبل لعرض الأفكار وتبادل الأراء وتقييمها، وكنت وما زلت مغرماً بإدارة الحوارات الإذاعية مع ضيوف مختلفي الاختصاصات والمشارب والتوجهات، وقد حاورت مئات الشخصيات المهمة، والمؤثرة في مجالاتها، في الطب والهندسة والثقافة والشعر والأدب والموسيقى فضلاً عن السياسة والاقتصاد والرياضة، من السيدات ومن الرجال، وأشهر برامجي الإذاعية تلك كان بعنوان”حوارات” ثم أرفق هذه التسمية بقولي: “فسحة ٌ لتبادل الرأي ومناقشة الفكرة والاطلاع على التجربة”!، في اعتقادي أن الحوارات الإعلامية الذكية، ذات فائدة متعددة الجوانب، للمضيف والضيف وللمستمعين والمشاهدين بطبيعة الحال، لأنها تبرز ما هو مخفي وجدير بالإحاطة، كما أنها قد تكشف خبايا في الضيف لم يحسن تقديمها عن نفسه وتجربته، ومن خلال مئات الحوارات التي أجريتها وجدت أن الكثير من الشخصيات المهمة وذات الاسم اللامع، البعض منهم لا يجيد التحدث عن نفسه، بل حتى لا يجيد التحدث عن تخصصه، بينما هناك شخصيات ربما أقل كفاءة وخبرة وتجربة، لكنها تحاول أو تجيد بالفعل تقديم نفسها، هنا تبرز أهمية المحاور وكيف تُبنى الأسئلة، و تتوالد وتنضج خلال الحوار. وليس سراً أنني لا أميل إلى إطلاع الضيف على الأسئلة قبل إجراء الحوار، بل هي تترى من خلال النقاش ومداولة الردود والأسئلة، وبصفة عامة، لدى قناعة بأن كل شخصية منا، يمكن أن تكون مشروعاً لرواية وأن حياة وسيرة أي شخص يمكن أن تشكل عرضاً مسرحياً متكاملاً إذا ما أُحسن تقديمها وتحليل محطاتها، وهنا يمكننا القول إن لكلٍ منا نصيبه من الدراما الخاصة ولكن من الذي يستطيع اكتشافها وتقديمها؟ هذا هو السؤال!!
اقرأ أيضاً: العراق يمنع بيع تذاكر السفر بالدولار لهذا السبب!
* ما مدى حضور القضايا العراقية الملحة من خلال أطياف العراقيين المهاجرة ؟ وماذا ينقص هذا الحضور؟
ــ مثّل العراق منذ عدة عقود عنواناً خبرياً مثيرا على الصعيد العالمي، مقترنا بالأحداث الدراماتيكية التي شهدها أو أثارها في المنطقة، رغم أنه لم يفصح كما ينبغي عن عمق تاريخه الطويل و كونه موطنا لحضارات عريقة رائدة، وساحة للمتغيرات الحضارية والثقافية والأزمات السياسية والعسكرية، ولم يبح نتيجة الظروف التي شهدها من نصف قرن بكل أسراره وخفاياه وجمالياته، ويكفي ان نشير إلى ان أرض الرافدين تحوي أكثر من عشرة ألاف موقع أثري مسجل وموثق، وهو عدد أقل بكثير عما تخفيه أرضه حتى اليوم من كنوز وتواريخ ومواقع تحكي قصصا كثيرة عن الحضارات ونشأتها وتطورها، ولذا فهو بالنسبة لشعوب وثقافات وأخبار العالم أشبه بالسحر، وقراءة عنوانه ودلالاته ليست سهلة، بل أنت إن سألت عدداً من العراقيين عن شؤون بلدهم ومعاني رموزه ومفردات ثقافته العريقة، لن تجد تطابقاً في الآراء أو الانطباعات أو المواقف بين أغلبهم! وهذه إحدى مفارقات هذا البلد وهذا الشعب، فرغم عمقه الثقافي والحضاري، إلا أن اختلاف وجهات النظر تعود لتاريخ كل فرد ومدى تعرضه لضغوطات وحصاد المواسم السياسة والظروف التي عاناها المواطنون في هذا الموقع أو ذاك، ليس من السهل أن تجد تطابقا لوجهات النظر تجاه موضوع عراقي محدد ، لذا فأنا أعتقد أن حضور العراق في سياقات الحوار الثقافي العالمي، هو حضور مرادف للتساؤل والاستفهام، وهو موضوع دسم ومثير للباحثين، عن الجديد وعن الأسرار التي لم تُكشف حتى الآن، فالعراق مثلاً على مستوى الموارد الطبيعية هو من البلاد الغنية جداً، كما أنه ينطوي على طاقات بشرية مهمة بعدد سكانه وبكفاءة نظامه التعليمي خلال العقود السابقة، لكنه تضرر كثيرا جراء الصراعات السياسية، وتنوع وتعاقب إداراته التي انتهج بعضها الإقصاء والتهميش وتكميم الأفواه والإبادة والتطهير العرقي، بحيث أنتجت أجيالاً من عراقيين غير متوازنين في قراءة واقعهم، وإدراك حقيقة بلدهم وفرص نهوضه وتطوره، بعد 2003 ورغم انتهاء عصر الحزب الواحد، برزت صفحات أخرى من خصومات داخلية مفتعلة، وجدت من يستغلها ويعكس آثارها السلبية واضحة على حياة الناس، فصار من التقليدي أن يُسأل العراقي(من أين أنت؟)، أو(أي هوية تحمل؟)،و(هل أنت سني، شيعي، كردي أم عربي؟)، و(هل أنت مسيحيٌ أم مسلم؟)، هذه الميزة التعددية للأسف الشديد، رُسخت بطريقة فجة ومرضية لبث روح الفرقة والتشرذم خلال السنوات الأخيرة، لذلك لا يزال حضور العراق في المشهد العالمي غير مكتمل وجلي جراء وطأة الأحداث والاحتدامات القاسية التي شهدتها البلاد ومواطنيها، لذا يتوجب أن يدرك المواطن دوره في ترميم ما يمكن ترميمه من صورة هذا البلد، وإلا فإن البقاء في منطقة الخلاف والبحث عن السلبيات وإدامتها، مقتلٌ مؤلم وخطير للعراق بكل قدراته الموصوفة.
* على مستوى القوى الناعمة العراقي.. هل ترى أن السينما استطاعت التعبير عن أزمات هذا البلد العميقة؟
ــ إذا كانت السينما من أدوات القوى الناعمة والدبلوماسية ونشاط الذكاء الثقافي فإنها في العراق لا تعد مؤثرة كثيراً بفعل تراجع أو ضعف الإنتاج السينمائي، اذ لم يزد عدد الأفلام الطويلة التي أنتجت عراقيا حتى اليوم عن المئة بكثير، وما يزال الحضورعلى المستوى الدولي أقل بكثير من حضور دول نظيرة أخرى، وما أريد قوله هو أن لارتباك صناعة السينما في العراق، أسباب فنية وإنتاجية، ففي فترة الخمسينيات وبداية الستينيات، كان الإنتاج محدودا ومقتصرا على التعاون مع شركات عربية مصرية ولبنانية مثلاً، إلا أن الفترة اللاحقة شهدت إنتاج سينمائيا جديرا بالتوقف والتقدير، لكنها كانت معدودة، وفي فترة السبعينيات حين سيطرت الدولة على كل النشاط الثقافي، أصبحت السينما منتجاً حكومياً، فلم تُقدم أعمالا فنية خالصة رغم وجود طاقات ممتازة من تمثيل وإخراج وإنتاج وخلافه، وهو ما يرجع لهيمنة عقلية الدولة والحزب والبروباجندا السياسية التي درجت على تقزيم الإبداع الفردي والكفاءات والمواهب، رغم ذلك برزت مجموعة من صناع الأفلام الممتازين والمقتدرين على تقديم سينما عراقية جيدة، لكنهم ذوو إمكانيات مالية محدودة جداً، ولم تقدم لهم الدولة الدعم اللازم، كما أن شركات الإنتاج المحلية ليست على قدر التصدي لمثل هذه المهمة الفنية الضخمة، أضف إلى ذلك أن الردة الاجتماعية التي حصلت بالعراق خلال العقدين الأخيرين، أطاحت بالبنى التحتية للسينما العراقية، فبغداد العاصمة التي كانت لوحدها تضم نحو ثلاثين داراً للعرض السينمائي، لا تمتلك اليوم سوى ثلاث أو أربع دور للسينما! ما يؤشر مشهدا ناقصا ومشلولا ولا يتناسب مع تاريخ الثقافة العراقية، ولذا فأنا حزين أن أقول إن السينما العراقية تم وأدها بهذه العوامل مجتمعة.
* في الختام، ما الحلم والطموح الذي لم يتحقق بعد في حياة مؤيد الحيدري الفنان والإنسان؟
ــ رغم أني أعيش ربما الفصل الأخير من العمر، إلا أني مازلت مطالباً بتقديم المزيد والأفضل في المجال الإنساني والثقافي والإبداعي في الفن والإعلام، أشعر أني لم أنجز بعدُ أفضل الأعمال التي يمكن أن أفخر بها، وهو الأمر الذي يجعلني مقبلا في هذا العمر على المزيد من التعلم والاطلاع و التجريب وإعادة التقييم، رغبة في إنجاز الأحسن لي وللإنسانية ولبلدي وأهلي.. وعموماً فالتمنيات ليست هي ما يجب أن نفخر به، بل العمل والإنجاز، وبعد هذه المسيرة والتنوع في العطاء، ثقافياً وفنياً ووظيفياً وأكاديمياً وإذاعياً، فإن امتناني هو لأسرتي التي أنشأتني وزرعت فيّ حب الوطن والإنسان والجمال والقيم النبيلة، التي حاولت أن أنقلها وأنمّيها في ولدَي(د هاشم/صيدلاني) و(م نبيل/مهندس طبي) فهما خير من يحمل اسمي فيما بعد، وجعلناها، أنا وزوجتي، عنوانا لعملنا وحياتنا وإنتاجنا الإبداعي والفني، فنحن نقّيم مسيرتنا سوياً بشكل يكاد يكون يومياً، وختاماً أتمنى أن أغلق عيني عن الحياة وأنا على تربة العراق، أرنو إلى بلدي وناسي والجيل الجديد وهو يؤسس لحياة آمنة مزدهرة تليق بالإنسان.
اقرأ أيضاً: خلود وتار لأرابيسك لندن: لبنان ليست دولة مارقة.. والمرأة اللبنانية قادرة على صنع السياسات في المجتمع