جرافيتي الهواة يثير المخاوف في بريستول ويكبد الاقتصاد البريطاني مليار دولار سنوياً لتنظيف الحوائط والجدران
تابعونا على:

مقالات

جرافيتي الهواة يثير المخاوف في بريستول ويكبد الاقتصاد البريطاني مليار دولار سنوياً لتنظيف الحوائط والجدران

نشر

في

232 مشاهدة

جرافيتي الهواة يثير المخاوف في بريستول ويكبد الاقتصاد البريطاني مليار دولار سنوياً لتنظيف الحوائط والجدران

الجرافيتي مصطلح مأخوذ من الكلمة اليونانية (الجرافين graphene) والتي تعني الكتابة، وهو أحد فنون التشكيل الأكثر جدلاً في المجتمعات المعاصرة والحديثة، وهو عبارة عن مجموعة من الرسومات والأشكال التي تظهر تارة في شكل لوحات جدارية مكتملة المعالم والملامح، وتارة أخرى تظهر في شكل شخبطة وعلامات ورموز، تحمل مفاهيم ومضامين مقصودة وموجهة من قبل أصحابها؛ لإثارة قضية من القضايا الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الإنسانية بصفة عامة.

ويتم كتابة الجرافيتي على الجدران بواسطة أقلام التحديد أو أطلية الأيروسول أو من خلال النقوش الميكانيكية والحمضية. 

 

كتب: محسن حسن  

وقد شهد هذا النشاط الفني تحولات غير سارة خلال السنوات الأخيرة؛ حيث لم تعد ممارساته تقتصر على الفنانين التشكيليين من ذوي الاحتراف والخبرة، وإنما أصبحت تلك الممارسات منتشرة على أيدي الجمهور والعامة من الناس في كافة الأماكن والبيئات الحضرية والريفية، وبشكل مسيء للتنسيق الحضاري والمعماري والجمالي، بل ومسيء أيضاً للأمن المجتمعي؛ حيث باتت الشكوى متزايدة من قيام أنشطة الجرافيتي بتشويه واجهات المنازل والجدران والأسطح الزجاجية والسيارات وغيرها، الأمر الذي تحولت معه تلك الأنشطة من نطاق الفنون الراقية، إلى نطاق الصدام مع القانون والمجتمع، وهو ما يحدث حالياً في أقبح صوره وأشكاله داخل مدن ومقاطعات بريطانيا.

وبالطبع لم تكن أنشطة الجرافيتي في المملكة المتحدة بمعزل عن الأسباب القوية التي ساهمت في ظهور وانتشار هذا الفن في عموم دول العالم؛ حيث تظل مكافحة الاستبداد السياسي ومواجهة القمع الموجه من المسؤولين والأجهزة الأمنية والشرطة تجاه عامة الناس، من بين أكثر الأسباب التي ساهمت في إقبال الفئات الشابة من الفنانيين التشكيليين على اتخاذ الجرافيتي وسيلة من وسائل التعبير عن الظلم والقهر والتهميش، وخاصة في الأحوال التي يتم خلالها استضعاف المجتمعات المحكومة وحرمانها من حقوقها السياسية والاقتصادية والإنسانية، وإغلاق كافة السبل الطبيعية للتعبير عن الرأي بحرية، وهو ما يلجأ معه أفراد المجتمع وفي مقدمتهم فناني الجرافيتي، لمواجهة مظاهر الاستضعاف تلك من خلال رسومات خاصة تعبر عن رفضهم للظلم وتبعث برسائل تفيد بأن المجتمع لن يستسلم وبأنه قادر على فضح المستور من ممارسات القمع والاضطهاد من خلال أدوات بسيطة لا تتجاوز الفرشاة والألوان!! 

ويعد(بانكسي) أحد فناني الجرافيتي الأشهر في بريطانيا من حيث تأثر الفئات الشابة به وبرسوماته التي امتلآت بها جدران الشوارع في لندن وباقي المدن البريطانية على مدار ثلاثين عاماً منذ بداية الألفية الثانية، والتي عبر من خلالها عن العديد من قضايا  رجل الشارع البريطاني سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وإنسانياً، فلم يترك مفردة من مفردات الفن الرمزي والمجتمعي إلا استغرقتها رسوماته ووظفتها في مواجهة القمع والاستبداد، ولكن رغم ذلك، أساء الكثيرون في المملكة المتحدة، وخاصة من هواة الجرافيتي، الاقتداء النافع بهذا الفنان الكبير، فلم يلتزموا برسومات مقننة وهادفة لخدمة قضايا مجتمعهم، وإنما راحوا يعبثون بالحوائط والجدران في كل مكان، بلا ضابط أو رابط، لا لشيء، سوى لإعلان تمردهم على محيطهم المجتمعي، وإثبات قدرتهم على إزعاجه وتشويهه، بل وتهديده أيضاً.

وبشيء من الملاحظة والتدقيق، سنجد أنه في الوقت الذي حقق فيه (بانكسي) هويته الفنية الخاصة من خلال رسوماته ورموزه وألوانه، فإن أغلب هواة الجرافيتي المعاصرين من غير المحترفين في المدن والمناطق البريطانية، لا هوية لهم ولا نظام، وفي حين قام بتطوير فنونه وأيقوناته عبر الجمع بين عناصر الطرافة والسخرية، فإن الغالبية العظمى من هؤلاء الهواة، بحسب (مسح الجودة البيئية 2001) في انجلترا، لا يستخدمون من الاستنسل المعتمد لدى هذا الفنان الكبير سوى 1% فقط، ما يعني أن أكثرية المواد المستخدمة في الرسم والكتابة، غير جيدة، وتتطلب جهوداً مضنية وتكليفات باهظة للتنظيف والإزالة.

وفي غالبية ممارساتهم لم يعتمد هواة الجرافيتي، رسائل نافعة من وراء بخاخاتهم الملونة التي طمسوا بها ملايين الجدران المملوكة للبريطانيين على غير رغبة منهم، بل كانوا في أغلب الأحوال معتدين على خصوصية غيرهم، وعلى ملكياتهم، ليس بشأن الجدران فحسب، وإنما أيضاً بشأن باقي مفردات وعناصر الملكية من أشجار وسيارات ودراجات بخارية ونوافذ زجاجية وقطع الأثاث وغير ذلك، بل إن الأمر الخطير في كل هذا، يتجلى في ممارسات الجرافيتي على أيدي العناصر الإجرامية والعصابات، وتوظيف الرسوم في التخطيط والإعداد لارتكاب جرائم متنوعة من خلال وضع بعض العلامات والرموز على الجدران، وهو ما يعد سلوكاً معادياً للمجتمع؛ حيث تتحول أنشطة الرسم على الجدران، لتصبح علامة على وجود عصابة بمنطقة الرسم، وهو الأمر الذي دفع بوزارة الداخلية البريطانية مؤخراً، إلى إطلاق حملة لمناهضة تلك الأنشطة، ومنح مكافأة قدرها 500 دولار لأي شخص يقوم بالإبلاغ عن مخالفات في هذا الإطار. 

وباستعراض خريطة السلوك التخريبي في المملكة المتحدة، سنجد أن الجرافيتي يتشارك مع مجموعة من السلوكيات التخريبية الأخرى في عموم المناطق والمدن، ورغم أنه لا يمثل السلوك التخريبي الأوسع انتشاراً، إلا أنه يشكل تحدياً أمنياً واقتصادياً واجتماعياً كبيراً للمجتمع والحكومة على السواء؛ فعلى سبيل المثال تتواجد مشكلة الجرافيتي بقوة ضمن السلوك التخريبي في ثلاث مدن إنجليزية هي شيفيلد بنسبة 37%، ومانشستر بنسبة 31%، وبريستول بنسبة 43%، وهذه الأخيرة تحتل المرتبة الأولى من حيث التخريب المرتبط بالكتابات على الجدران وفق تقديرات خبراء البناء المعماري لعام 2020، وهو ما دفع مجلس مدينة بريستول لزيادة غرامة رسوم الجرافيتي في الأماكن العامة إلى 150 دولاراً.

هذا في حين تهيمن مشكلات تخريبية أخرى على باقي المناطق والمدن؛ فعلى سبيل المثال يهيمن سلوك إتلاف السيارات العامة والخاصة بنسب متفاوتة على مجمل السلوك التخريبي في عدة مدن، منها مثلاً إدينبيرج بنسبة 57%، ونيوكاسل بنسبة 56%، وساوثهامبتون بنسبة 52%، وليفربول بنسبة 62%، وكارديف بنسبة 60%، في حين يمثل سلوك تحطيم النوافذ نسبة 30% في ليدز، و48% في بلفاست، و33% في برمنجهام، بينما يمثل السلوك التخريبي الناتج عن محاولات السرقة نسبة 35% في نوتنجهام، و30% في نوريتش، و33% في لندن، و40% في غلاسجو.

وبصفة عامة، تعد السلوكيات التخريبية الخاصة بالجرافيتي آخذة في التوسع والانتشار، خاصة مع عدم التزام ممارسي هذا النشاط بالرسم في المساحات والأماكن الرسمية المخصصة للأعمال الفنية، والتي توفرها المجالس المحلية البريطانية لفناني الجرافيتي لإنتاج أعمالهم بشكل قانوني. 

ومن حيث الوجهة القانونية الخاصة بممارسة أنشطة الجرافيتي، فإنه يتوجب على الهواة قبل المحترفين، معرفة مجموعة القوانين الحاكمة لإدارة أنشطتهم، والتي يمكن أن تعرضهم لعقوبات قاسية حال ثبوت مخلفاتهم لها أو تغاضيهم عنها؛ فهناك (قانون الأضرار الجنائية) لعام 1971، والذي يجرم الكتابة على الجدران جنائياً بموجب المادة 1 منه، وتتراوح العقوبات في هذا القانون بين إبراء الذمة المشروط من محكمة الصلح في حالة الأضرار الطفيفة للجرافيتي، والسجن لمدة قد تصل إلى عشر سنوات من قبل محكمة التاج، وذلك في حال كان الضرر يزيد على 10 آلاف دولار، وفي حال كان القائم بالرسم حدثاً صغيراً، فإن العقوبة تكون مخففة بحيث تقتصر على الغرامة أو الخدمة المجتمعية. 

ووفق المادة (6) من قانون مكافحة الإرهاب الصادر في 1971، تتمتع الشرطة البريطانية بسلطة تفتيش منازل رسامي الجرافيتي المشتبه بهم في الكتابة على الجدران، خاصة في الحالات الخطيرة، التي تتطلب البحث عن المواد المستخدمة لإلحاق الضرر بممتلكات شخص آخر و من ثم مصادرتها.

وهناك أيضاً (قانون النظام العام) الصادر عام 1986، والذي تنص المادة 18 منه، مثلاً، على معاقبة رسامي الجرافيتي المخالفين بعقوبة السجن القصوى سبع سنوات، في حال تضمنت كتاباتهم أو رسوماتهم كلمات أو صوراً تحض على الكراهية أو العنصرية.

أما (قانون السلوك المعادي للمجتمع) والصادر عام 2003، فهو يمنح المجالس المحلية البريطانية صلاحيات عديدة، منها معاقبة المخالفين أو مساعدتهم على إزالة الجرافيتي عن الجدران غير القانونية، وتوزيع إشعارات على مالكي الأسطح والجدران المغطاة بالرسوم والكتابات، تأمرهم بإزالتها في غضون 28 يوماً وإلا ستقوم السلطات بمباشرة الإزالة مع تغريم المالك ما يتقرر من رسوم وتكاليف، كما ينص القانون على إلزام أصحاب المتاجر بعدم بيع رذاذ الطلاء لمن تقل أعمارهم عن 16 عاماً، وتغريم التاجر المتهاون في التحري عن أعمار المشترين للرذاذ.

وقد تم تعديل القانون الأخير(قانون السلوك المعادي للمجتمع 2003) بموجب قانون آخر هو (قانون الأحياء النظيفة والبيئة) الصادر عام 2005، والذي يمنح المجالس المحلية سلطة إصدار إشعار بعقوبة ثابتة  قدرها 75 دولاراً، لأي شخص يتم القبض عليه وهو يقوم بالكتابة على الجدران، وذلك بموجب القانون الوطني لعام 2005، كما يتيح القانون تحديد عقوبة أعلى أو أقل، إذا رأت السلطة المحلية ذلك ضروريا، ومن جهة أخرى، سيؤدي عدم الامتثال لإشعار العقوبة الثابتة المشار إليها إلى إقرار عقوبة جنائية.

 وفي ظل تنامي الآثار السلبية لأنشطة الجرافيتي العشوائية في المملكة المتحدة، فإن التكلفة الاقتصادية المترتبة على تلك الآثار، ترهق كاهل الخزانة العامة للبلاد بالمزيد من النفقات والهدر؛ حيث يؤدي الانتشار الواسع للكتابة على جدران المرافق ومراكز التسوق وأبواب الشركات التجارية والمصانع ومؤسسات الرعاية الصحية وغيرها إلى الإضرار بمظهر المباني، وإلى استنزاف الموارد التجارية، ومن ثم إلى جهود إزالة وتنظيف تزيد تكلفتها السنوية على مليار دولار.

ووفقاً لشرطة النقل البريطانية، يتكبد مترو أنفاق لندن ما يقدر بنحو 10 ملايين دولار سنويا لاستبدال الزجاج المحفور، بالإضافة إلى 2.5 مليون دولار أخرى لإزالة أنواع مختلفة من الكتابة داخل محطاته، وهي الكتابات التي تتسبب في تلف الأسطح الزخرفية أو الرقيقة، إلى جانب كون أغلبها مهدداً للعملاء والمسافرين أفراداً وجماعات، ومسيئاً للغاية من حيث المضامين والتلميحات الجنسية والعنصرية.

وبالطبع هناك العديد من المؤثرات السلبية غير المباشرة لرسوم الجرافيتي العشوائية، وجميعها مؤثرات ذات أبعاد وخسائر اقتصادية؛ إذ يؤدي قبح التشوهات الملحقة بالمباني والمؤسسات في بعض الأحيان إلى تعطيل العمل وانخفاض معنويات الموظفين والعمال، كما أن التكلفة الباهظة لإزالة الرسوم، كان يمكن ـــــ في حال توفيرها ــــــــ أن تفيد قضايا حكومية واجتماعية أخرى أكثر أهمية، مثل التعليم والرعاية الصحية، وهو ما يعني أن المشكلة معقدة وليست بسيطة، وتتطلب من الحكومة والمجتمع المدني إسناد مهمة التنظيف والإزالة إلى شركات متخصصة في إدارة الأضرار، وفق معايير مهنية، واستجابة سريعة، ومنتجات وتقنيات صحيحة في التنظيف وإعادة التهيئة الجمالية للجدران المشوهة، إلى جانب توفير عامل الوقاية من تكرار تشويهها مراراً من خلال ما يعرف بـــــ(الروادع الطبيعية) كالنباتات والسياجات الشائكة التي تمنع وصول المخربين وهواة الشخبطة إلى أي جدار تمت معالجته، بالإضافة إلى عناصر وقائية أخرى كالإضاءات الأمنية وتركيب الكاميرات والدوائر التلفزيونية المغلقة. 

وفي الختام، نؤكد أن ظاهرة الجرافيتي بكل أنماطها ورسوماتها ورموزها، باتت مشكلة ذات أبعاد خطيرة في المجتمع البريطاني، وتحتاج في الحقيقة إلى حلول أكثر مرونة واحتوائية وفاعلية؛ فقد بات أكثر المواطنين يشعرون بقلق كبير تجاه الكتابة على الجدران سواء في مناطقهم السكنية أو في باقي المدن عموماً، خاصة مع بطء السلطات المحلية في التصرف في الكثير من الأحيان، ومن ثم، يجب العمل على احتواء هذه الأنشطة على المستوى الفني والثقافي ومحاولة توظيف ودمج النافع منها حضارياً من خلال مشاريع حقيقية لرعاية المواهب، يمكنها أن تساهم في امتصاص الظاهرة وترويضها، ولا بأس بتوسيع نطاق المساحات الرسمية المخصصة لها، مع إظهار الضوابط اللازمة لجودة الممارسة، وخاصة للفئات الشابة التي تجهل في الغالب تلك الضوابط أو القوانين الحاكمة لهذا النشاط.

وفي كل الأحوال، يجب أن يكون البريطانيون إيجابيون في مواجهة المخالفات الصادرة عن هواة تشويه الجدران، وذلك من خلال الإبلاغ عن تلك المخالفات، مع اتخاذ بعض الإجراءات المهمة، والتي يأتي على رأسها  زيادة الردع الأمني المجتمعي من خلال تركيب كاميرات مراقبة للشركات والمؤسسات والمنازل، وتأمين محيط الأماكن المختلفة بموانع تحول دون الوصول المريح إلى الجدران والحوائط والأسطح مثل استخدام بوابات قوية وأسوار عالية، وفي حالات الطواريء واكتشاف المخالفات سيكون من الجيد الإبلاغ عنها عبر الاتصال برقم 101 للإسهام بفاعلية في مواجهة الظاهرة وحماية البيئة وتوفير التكلفة الباهظة للتنظيف والإزالة. 

X