ريشي سوناك.. مخاض المائة يوم وتظاهرات الشارع البريطاني.. هل من جديد؟
تابعونا على:

مدونات

ريشي سوناك.. مخاض المائة يوم وتظاهرات الشارع البريطاني.. هل من جديد؟

نشر

في

1٬071 مشاهدة

ريشي سوناك.. مخاض المائة يوم وتظاهرات الشارع البريطاني.. هل من جديد؟

كتب: محسن حسن

منذ فوز ريشي سوناك برئاسة الحكومة البريطانية في الخامس والعشرين من أكتوبر 2022، والمواطن البريطاني يعقد آمالاً كبيرة عليه في تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وذلك استناداً إلى خبراته المتراكمة؛ فهو دارس للاقتصاد، ومتخصص في الصناعة المالية والتمويل، قبل دخوله أروقة السياسة من بوابة البرلمان عام 2015، وقبل شغله المناصب ذات البعد الاقتصادي، كمنصب السكرتير الأول لوزارة الخزانة ووكيل الوزارة البرلماني بوزارة الإسكان والمجتمعات والحكم المحلي، ثم وزير الحكم المحلي (2018)، فوزير الخزانة (2020/2022) وحتى وصوله إلى منصبه الحالي، وبالتالي، فهو يمتلك مهارات متينة في عالمي الإدارة والمال، اللذين يحتاج البريطانيون إلى توظيفهما للتخفيف من أزمتهم الاقتصادية الراهنة، ولكن بعد تجاوز المائة يوم الأولى في منصبه: هل برهن سوناك عملياً على جدارته بانعقاد الآمال عليه؟

إيجابية منقوصة
باستقراء شخصية سوناك ومحيطه، نجد أنه يمتلك بريقاً يمنحه هالة وكاريزما فاعلة في أوساط رجال المال والأعمال، كما ندرك للوهلة الأولى، أننا أمام رجل اقتصاد من الطراز الرفيع، أثبتت تجاربه الخاصة والاستثمارية مع الشركات والمؤسسات المالية في بريطانيا والعالم، أنه ليس ممن يسهل قيامهم برفع راية الاستسلام أمام الأزمات الطارئة والأوضاع المتأزمة، ولعل ما ناله من ثناء تجاه أدائه الاقتصادي خلال احتدام جائحة كوفيد19، وقيامه بدعم وإنقاذ الشركات والأفراد المتعثرين عبر توسيع دائرة الإنفاق الحكومي، بالإضافة إلى اشتهار توقعاته الصائبة بشأن سلبيات قرارات (ليز تراس) الخاصة بخفض الضرائب، يؤكد امتلاكه حلولاً إيجابية لمشكلات بريطانيا، لكن بتتبع النتائج المتحققة، نصطدم بما يمكن تسميته بــ (إيجابية منقوصة) لسوناك؛ ونعني بها عدم انشغاله الكامل بالمحور الأهم في حياة البريطانيين، وهو تذليل عقبات الاقتصاد الداخلي، ففي غفلة منه، قفز التضخم من 9% تقريباُ في عهد (تراس) إلى ما يقارب الــ 11% خلال أشهر حكومته الأولى، وهو معدل لم تشهده البلاد خلال أربعة عقود مضت، كما أن كافة المؤشرات الرقمية للاقتصاد، ظلت في حالة انحدار سلبي، وفي الوقت الذي أبدى فيه الرجل اهتمامه بإلقاء التبعات على عوامل خارجية كالحرب الروسية وبوتين، فإنه يُهمل بذل اهتمام مماثل لهيكلة القطاعات الحيوية كقطاعي الكهرباء والغاز (الطاقة) والقطاع الغذائي، وكلها قطاعات مؤثرة بالسلب في عموم المستهلكين التقليديين، هذا إلى جانب فشله في تحقيق مطالب النقابات العمالية بزيادة رواتبهم بنسبة 5.5%، كما أنه لم يكن مقنعاً في علاج المآخذ الإجرائية التي انتقدها لدى سابقيه خلال مناظراته الانتخابية، الأمر الذي كرس معاناة الجماهير، وجعلها في حالة شك من إمكانية تأمين أقواتهم أو حتى تدفئة منازلهم، وهو ما أجبر عموم البريطانيين على خوض إضرابات عمالية غير مسبوقة، لا تزال تزيد من خسارة الاقتصاد البريطاني المتوالية لمئات الآلاف من أيام العمل.

فقدان التعاطف
وعلى صعيد آخر، فقد كان من المفترض أن تكون محاذير سوء الفهم المحتمل بين (سوناك) كسياسي، ورجل الشارع في بريطانيا كناخب ومرؤوس، ضمن الأولويات القصوى لأول رئيس وزراء ملون وصغير السن في تاريخ البلاد، لكن مخاض الأشهر المنصرمة من سلوكيات الرجل الخاصة، ألقت بظلالها القاتمة على علاقته بغالبية البريطانيين؛ بعض هذه السلوكيات أظهرته كمترفع ومتعال على قوانين البلاد التي يشغل أرفع مناصبها الرسمية، مثل تعرضه لغرامة بسبب تخليه عن وضع حزام الأمان أثناء قيامه ببث فيديو وهو جالس بالمقعد الخلفي لإحدى السيارات المنطلقة، وهو بطبيعته ما تجرمه قوانين بريطانيا، وما كان سبباً في استحضار ذهنية متابعيه موقفاً آخر له، عندما شارك كوزير للمال في حفل عيد ميلاد رئيس الوزراء الأسبق (بوريس جونسون) خلال فترة حظر التجمع المضروبة للحد من انتشار كوفيد19، وهناك مواقف أظهرته كثري مسرف من جهة، وكسياسي منفصل عن الطبقات الدنيا من الجماهير التي يحكمها من جهة أخرى؛ مثل قيامه بالسفر إلى منطقة داخلية قريبة في بريطانيا عبر طائرة خاصة بدلاً من ركوب القطار، إلى جانب انتشار تصريحات متلفزة له، أدلى بها عام 2001 لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، وذكر خلالها ما يفيد تنصله وترفعه على الطبقة العاملة وأبناء الطبقة العاملة في بريطانيا، في حين أظهرته معاملة شرائية داخل أحد المتاجر، كرجل قليل الحيلة، لا يستطيع استخدام بطاقته الائتمانية لدفع نفقاته الخاصة، وهي المواقف التي أدت مجملة إلى أن يفقد سوناك الكثير من أرصدة تعاطف البريطانيين معه.

أخطاء فادحة
وبخلاف سلوكياته المنتقدة، والتي ربما ينظر إليها البعض باعتبارها هامشية إذا ما قيست بحجم الأعباء الملقاة على عاتق من يتولى إدارة الحكومة البريطانية، يفاجئنا الرجل بجملة أخطاء أخرى، أقل ما توصف به، أنها فادحة سياسياً واقتصادياً، جاءت على النحو الآتي:
أولى سوناك السياسة الخارجية، اهتماماً مبالغاً فيه على حساب السياسات والخطط الاقتصادية الداخلية، وكان دعمه السياسي لأوكرانيا، مغلفاً بنفقات مالية، ومتزامناً مع تقصيره في إتمام المهمة الأساسية لمقتضيات منصبه، ألا وهي البدء الفوري في إعادة بناء وهيكلة الاقتصاد البريطاني.
في خضم انشغاله بدعم أوكرانيا، وتحقيق الريادة الأوربية في هذا الدعم، أغفل سوناك، إبداء الحساسية والاستشعار المطلوبين، تجاه ملف الفساد المالي داخل البلاد، بما في ذلك، ملفات بالغة الخطورة تتعلق بتهرب أعضاء منتمين للحزب الحاكم من الوفاء بالتزاماتهم الضريبية، بل تتعلق أيضاً بإعفاءات ضريبية حصلت عليها زوجته (أكشاتا مورتي). وما زاد من كارثية هذا الخطأ أن سوناك أبدى عدم معرفته ببعض التفاصيل الخاصة بهذه الملفات رغم أهميتها ودخولها ضمن نطاق عمله كرئيس للوزراء، ودخولها أيضاً ضمن نطاق وعوده الانتخابية بالتزام النزاهة ودعمها.
وضع ريشي نفسه ــ مختاراً أو مجبراً ــ في طريق الصدام الحتمي مع ما يزيد على 99 عضواً متشدداً من أعضاء حزبه من المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وجاء ذلك عبر توريط نفسه في تقديم تنازلات لأوروبا فيما يخص بروتوكول أيرلندا الشمالية ضمن صفقة بريكست، وهي خطوة غير محسوبة العواقب من جانبه، وتدل ــ وفق تقييمات عدة ــ على عدم نضجه السياسي كرجل دولة، خاصة وأن حتمية الصدام المشار إليه، ستزيد من عوامل التفكك والتشرذم على المستويين السياسي والاقتصادي في الداخل البريطاني، وهو ما لا يتناسب مطلقاً مع الحالة الراهنة للبلاد، والتي تتطلب التكاتف والاصطفاف للخروج بالاقتصاد المتأزم إلى بر الأمان.

صراع الديكة
وتمنحنا كواليس داوننينج ستريت (مجلس الوزراء البريطاني)، تفسيرات منطقية لذلك الترهل المعيشي الحادث في حياة الأسر البريطانية؛ حيث تشهد تلك الكواليس، ما يمكن تسميته بــ (صراع الديكة) بين شاغلي منصب رئاسة الوزراء سابقاً (بوريس جونسون) و (ليز تراس) من جهة، و(سوناك) من جهة مقابلة، كما تشهد حالة من الرقابة العدائية بين الجهتين؛ فبالطبع لم ينس جونسون وتراس أن (ريشي) كان سبباً رئيسياً من أسباب سقوطهما الانتخابي، وبالتالي فإن الجميع إما منشغل باستعادة أمجاده الحزبية والبرلمانية (تكتل جونسون/تراس)، أو منشغل بالدفاع عن منصبه(سوناك)، في وقت يوشك فيه الشارع البريطاني على انفجار قد يأكل الأخضر واليابس، وفي وقت يشكو فيه البنك المركزي ضغوطاً مزدوجة (داخلية/خارجية) بسبب الارتفاع المتكرر لأسعار الفائدة، والذي يهدد المالية البريطانية بفقدان أصولها وجاذبيتها لصالح بنوك وماليات أخرى خارج البلاد، وهو ما تؤكده مؤشرات عديدة أبرزها حالة الهروب الجماعي للأثرياء بأرصدتهم المليارية(قرابة 1500 ثري خلال 2022 بحسب DPA الوكالة الألمانية للأنباء) ، وهي الحالة التي تعاني منها بريطانيا منذ بدايات(بريكست)، ومن ثم فإن المحصلة تؤكد أن حالة القصور الاقتصادي المتنامي بين البريطانيين، والتي ستبلغ ذروتها خلال العام الحالي 2023 عبر ركود راجح ونمو سالب توقعه أحدث تقارير صندوق النقد الدولي، بخلاف التوقعات الإيجابية لاقتصادات باقي دول مجموعة السبع، هذه الحالة من القصور، يلعب الصراع الخفي الدائر في كواليس مجلس الوزراء البريطاني دوراً رئيسياً في تغذيتها، بالطبع مع عدم إغفال صراع آخر في الجوار، هو صراع المعارضة بقيادة حزب العمال، بكل تداعياته وإرباكاته.

موازنات مستحيلة
وانطلاقاً من الاعتبارات السابقة مجملة، فإن (سوناك) بات في وضع لا يحسد عليه من حيث القدرة على التماسك وإحداث التوازن المطلوب بين كافة التجاذبات المحيطة به، سواء على المستوى المعيشي للبريطانيين، أو على المستوى السياسي فيما يخص محاور عدة، أبرزها محور إصلاح (حزب المحافظين) الذي يواصل التهاوي والانقسام وخسارة النقاط في استطلاعات الرأي أمام حزب العمال، ومحور إنهاء المرحلة الانتقالية للخروج من الاتحاد، والتوصل إلى طريقة للخلاص من إشكالية بروتوكول أيرلندا الشمالية، هذا إلى جانب ملف الهجرة غير الشرعية، وما يمثله من صداع مزمن في رؤوس الجميع، وكل هذا بالطبع، يجب استحضار تداعياته في ظل إصرار (سوناك) على مواصلة تقديم ملف الدعم الأوكراني على ما عداه من ملفات داخلية؛ ومن ثم، فإن الخيارات تضيق شيئاً فشيئاً أمام الرجل، إلى الدرجة التي يمكن الجزم فيها، باستحالة صموده على مواقفه وقناعاته، دون تقديم تنازلات ستنال عاجلاً أم آجلاً من هيبة منصبه، ومن قدرته على مواجهة منافسيه في الحزب، ناهيك عن مواجهة خصومة وغرمائه من خارجه.

احتمالان وحافة
وفي حال طرحنا السؤال القائل: هل سيخيَب رئيس داوننينج ستريت، ظن منافسيه، ويستطيع إكمال ما بقي من فترة منصبه حتى موعد الانتخابات القادمة خلال أكثر من عام ونصف؟ فإن المؤشرات المستخلصة من نتائج المائة يوم الأولى، لا تجعلنا متفائلين بشأن استمراره، وبالطبع نحن في هذا الإطار نستحضر وطأة وقسوة الأوضاع المعيشية لرجل الشارع البريطاني، ومعها ارتفاع وتيرة الإضرابات، وما يمكن أن تحدثه من تداعيات غير متوقعة؛ ولكننا رغم ذلك أمام احتمالين اثنين هما؛
الأول أن يستطيع الرجل استدعاء وإفاقة خبراته وعلاقاته الاقتصادية المتراكمة وتوظيفها في تحسين الأوضاع المعيشية وتلبية طموحات النقابات المختلفة فيما يخص زيادة الأجور، بالتزامن مع نجاحه في اتخاذ إجراءات مناسبة وعاجلة لإنعاش الاقتصاد الوطني وتعزيز الإنتاج وإيجاد بدائل جديدة لتوفير الطاقة والحد من التضخم، جنباً إلى جنب مع تحييد خصومه وغرمائه الحزبيين والمعارضين، وهو احتمال صعب التحقق، لكنه ليس مستحيلاً على كل حال.
الثاني أن تشتد الضغوط المحيطة بالرجل من كافة الجهات وعلى كل المستويات، مما يولد أوضاعاً استثنائية بين البريطانيين، الأمر الذي قد يدفع (سوناك) إلى الانتصار لاستقلاليته وعالمه الخاص ومن ثم يقدم استقالته مختاراً أو مجبراً، على أن حدوث أية أوضاع استثنائية قاسية في الشارع البريطاني، قد تُفضي إلى نتائج نوعية ربما تتجاوز مصير سوناك نفسه إلى مصير حزب المحافظين بأكمله، فقد يستطيع حزب العمال ــ وفق تقدمه الراهن ــ استقطاب الناخبين، وإفقاد المحافظين سيطرتهم الحكومية التي دخلت عقدها الثاني. وهذا الاحتمال الثاني يراوح مكانه جيئة وذهاباً، فهو قريب التحقق إذا ما تهيأت له الظروف.
ومع بقاء الاحتمالين السابقين ماثلين في المشهد البريطاني إلى حين، سيظل رئيس الوزراء الحالي متأرجحاً على حافة مصير مجهول لكنه محفوف بالمخاطر على كل حال.

هل من جديد؟
وفي ختام هذا العرض التقييمي لمخرجات المائة يوم الأولى لـ (سوناك)، يحق لنا طرح سؤال ختامي حول وضع البريطانيين المتدهور، والسؤال هو: هل من جديد؟ وللأسف الشديد، فإن الإجابة ليست بأقل مرارة مما عليه ذلك الوضع؛ لأننا ببساطة أمام الحقائق التالية:
حزب المحاظفين منذ سنوات، ليس منشغلاً بإدارة وبناء اقتصاد بلاده بقدر انشغال غالبية أعضائه بإدارة وبناء ذواتهم ومناصبهم.
حكم الأثرياء وأباطرة المال، ليس بالضرورة قادراً على تحقيق الثراء والرخاء الاقتصادي والمالي، بل من الممكن أن يكون سبباً في إهدار المال وعرقلة الاقتصاد.
العلاقات الخاصة للمسؤولين الحكوميين في بريطانيا، تتسبب في التغاضي عن الكثير من حقوق البلاد وحقوق مواطنيها، وتساهم بقدر كبير في تعطيل خطط الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
الاقتصاد البريطاني أصبح طارداً للجاذبية المالية ورؤوس الأموال والمستثمرين، كما أصبح مهيئاً لحدوث المزيد من التراجع على المدى القريب، وبات رفع أسعار الفائدة، مهدداً بانخفاض جديد للجنيه الاسترليني وبانهيار أسعار السندات، وبزيادات خرافية في قيم الرهن العقاري، إلى جانب تهاوي أرصدة الصناديق التقاعدية ورفع كلفة القروض الممنوحة، وهو ما يعني المزيد من مؤشرات الانكماش الاقتصادي.

رجل الشارع البريطاني سيدفع من جيبه وقوت يومه وعرقه، ثمن الانتصار للنفوذ والرؤى والقرارات الخاصة بأصحاب المناصب السابقة والحالية في داونينج ستريت، وما ذلك إلا لأن غالبية تلك القرارات، لم تكن أبداً في صالحه أو قي صالح اقتصاده الوطني، وإنما تم تفعيلها بالأساس كنتيجة منطقية للتشرذم الحزبي والنفاق الإعلامي وكيد الخصوم.
ما لم يتوقف البريطانيون جميعاً على اختلاف انتماءاتهم وأماكنهم ومناصبهم الرفيعة والدنيا، عند نقطة نظام يبحثون خلالها بصدق وتجرد عن الأهواء والمصالح الشخصية، كيفية الخروج من أزمتهم الاقتصادية، فإن العواقب المعيشية وتيارات التغيير القاسية ستعصف بهم بلا هوادة.
انتهى

إترك تعليقك

إترك تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

X