الإتيكيت الإنجليزي.. أخلاقيات سلوكية وإنسانية تسيء إليها تصرفات البريطانين!!
تابعونا على:

مدونات

الإتيكيت الإنجليزي.. أخلاقيات سلوكية وإنسانية تسيء إليها تصرفات البريطانين!!

نشر

في

1٬418 مشاهدة

الإتيكيت الإنجليزي.. أخلاقيات سلوكية وإنسانية تسيء إليها تصرفات البريطانين!!

على مدار سنوات وعقود طويلة، احتلت بريطانيا مكانة رفيعة في تعليم الناس أصول العادات والسلوكيات الفردية والجماعية، وتمتعت بتاريخ عريق من التقاليد الملكية الزاخرة بالمعارف الثرية والنادرة، وخاصة على مستوى المدونات العرفية للسلوك المهذب في المجتمعات المحافظة، والتي في ظلها، كان المجتمع البريطاني ميالاً بالفطرة نحو التحلي بالأخلاق الحميدة والسلوك المنضبط، وكان الإتيكيت السلوكي والملكي، هو الدرس المستفاد والطاغي على جوهر الثقافة الإنجليزية التي نقلت إلى دول العالم أجمع مفهوم الآداب الاجتماعية والأخلاقيات القويمة.

 

كتب: محسن حسن

آداب شاملة
وقد اشتملت قواعد هذا الإتيكيت على كافة جوانب النشاط الإنساني، ابتداءً بطرق الأداء الكلامي، ومروراً بلغة الجسد، وانتهاءً بالدقة في المواعيد، وطرق وآداب الضيافة وتناول الطعام، إلى غير ذلك من الآداب البريطانية الجامعة لأصول اللياقة واللباقة في جميع الظروف والأحوال، والتي اتسمت بشمولية الاهتمام بالعادات الاجتماعية والملامح السلوكية، وبدقة التفاصيل في مواكبة الأفعال وردود الأفعال لكل ظرف وحالة وشريحة عمرية؛ ففي اللقاءات والمقابلات الأولى بين شخصين مثلاً، تعلم البريطانيون من قواعد السلوك الملكي، تجنب العناق والاكتفاء بالمصافحة وعدم طرح الكثير من الأسئلة المثيرة للاستهجان، وخاصة تلك الأسئلة الشخصية الموجهة للسيدات الناضجات والمتعلقة بطبيعة العلاقة العاطفية وحالتها، وبقيمة الأجر والراتب، وبالعمر أو الوزن. وفي المناسبات المختلفة سواء الاجتماعية الأسرية أو الرسمية الوظيفية، أو غيرها من المواعيد الحياتية الأخرى، تعلموا من قواعد الإتيكيت الإنجليزية الصارمة، دقة المواعيد؛ وعدم الوصول المتأخر لأنه من قبيل الأمور غير المهذبة، ومن ثم التبكير من خمس إلى عشر دقائق قبل الموعد المحدد حتى يكونوا أكثر احتراماً لمضيفهم، وحتى يتجنبوا أسباب الحرج والارتباك أو الظهور بمظهر غير احترافي، وعلى العكس من كل ذلك، تعلموا من الآداب البريطانية عدم الوصول المبكر إلى حفلات العشاء، خاصة إذا كان الوصول مبكراً جداً ويتسبب في إحراج المضيف وإعاقته عن إكمال استعدادته.

في الزيارات والمائدة
ولأن الحياة في مجملها عبارة عن مجموعة مناسبات مختلفة، فردية وجماعية، وجدنا الإيتيكيت الإنجليزي يراعي مسألة استرضاء المضيف والتقرب إليه عبر سلوكيات محببة وغير منفرة، ففي مناسبات الضيافة مثلاً، تعلم الإنجليزي كيف يجب أن يلتزم الضيوف بتقديم الهدايا كباقات الزهور أو الحلوى أو الشيكولاتة،

الإتيكيت الإنجليزي.. أخلاقيات سلوكية وإنسانية تسيء إليها تصرفات البريطانين!! إلى جانب المحافظة على آداب المائدة وتناول الطعام، وكيف أنه يجب الحذر من تناول الطعام بأصابع اليد وتجاهل استخدام أدوات المائدة من الملاعق والشوك والسكاكين بالشكل الصحيح (طبعاً باستثناء حفلات الشواء المفتوحة أو البوفيه غير الرسمي)، فالسكين يجب أن تكون في اليد اليمنى والشوكة في اليسرى، بينما يجب أن يتم تناول الطعام بعيداً عن طريقة الغَرْف المُشينة، وذلك من خلال إمالة الشوكة لأسفل ثم استخدام السكين في دفع قطع الطعام نحو ظهرها، وفي حال كانت أواني الطعام المقدمة كثيرة، فإنه يفضل البدء بالأواني القريبة ثم البعيدة فالأبعد. وكذلك تعلم البريطاني أن من آداب المائدة، عدم المبادرة بتناول الطعام قبل إتمام إجراءات الإعداد وتقديم الطعام لجميع الحضور، وتعلم أيضاً أن من المعيب جداً محاولة الوصول إلى طبق شخص آخر للحصول على بعض ما يريد، وأنه يُفَضل أن يطلب تمرير العنصر الذي يحتاجه حتى يصل إليه، كما تعلم أن وضع المرفقين على المائدة أثناء الطعام أمر مشين، وكذلك الحال بالنسبة للطرق الغريبة التي قد يتبعها البعض أثناء مباشرة الأكل، كإصدار أصوات صاخبة، أو التثاؤب والسعال، والمضغ والحديث معاً بفم مفتوح، فكل هذه التصرفات تعلم الجميع في بريطانيا أنها تعني من وجهة نظر الثقافة الوطنية أن الشخص يعاني من نقص التربية وعدم التنشئة على الأخلاق الحميدة، وأن الاتهام هنا لا يطال الشخص وحده، وإنما يطال أسرته كذلك.

آداب القصر الملكي
ومن المعلوم، أن قواعد الإتيكيت الملكية كان يتم توارثها في بريطانيا بين الأجيال المختلفة بطريقة عملية وتطبيقية منذ القدم؛ ففي الغالب الأعم، لم يكن يتم تعلم تلك القواعد من خلال الكتب أو السجلات، وإنما من خلال التجارب العملية داخل الأسرة والمجتمع بشتى مستوياته وطبقاته وأنماطه، حيث كان مجموع السلوكيات والقواعد الأخلاقية لا يُنظر إليها فقط على أنها دليل احترام وتقدير، بل كانت محوراً مهماً من محاور تقديم الشخص أو تأخيره ضمن أولويات السلم الاجتماعي والوظيفي والمهني؛ فمن خلالها إما أن يتم قبول الشخص واحتضانه، أو أن يتم رفضه وإقصاؤه. وهذه القواعد السلوكية المتوارثة في بريطانيا، طالما حكمت ــ ولا تزال تحكم ـــ القصر الملكي في باكنغهام؛ فعلى سبيل المثال، هناك أمور يجب اتباعها في المصافحة؛ حيث يجب تثبيت النظر في العين، وعدم تكرار هز اليد التي تصافح، وبالنسبة لعامة الناس، يُمنع البدء والمبادرة بمصافحة شخصية ملكية حتى تبادر هي أولاً بالمصافحة، وهناك أيضاً العديد من السلوكيات المتبعة ضمن قائمة إرشادات السلوك الصارمة التي يتم توريثها لأفراد العائلة المالكة، بما في ذلك بعض العادات المستغربة؛ فمثلاً تقتضي بعض تقاليد العطلات العائلية أثناء أعياد الميلاد، أن يتم وزن أفراد العائلة قبل وبعد العشاء، فإذا زاد وزنهم، فإن هذا يعد دليلاً على استمتاعهم بطعامهم، وهو تقليد ملكي غريب قيل إنه يعود إلى أوائل القرن العشرين، عندما قام به الملك (إدوارد السابع) الجد الأكبر للملك (تشارلز الثالث) رغبة منه في ضمان استمتاع ضيوفه بجودة الطعام المقدم إليهم. وأثناء السفر، يحظر سفر الورثة المباشرين للعرش على رحلة طيران واحدة، حفاظاً على إرث الحكم الملكي، فعندما يبلغ الأمير (جورج) اثنى عشر عاماً مثلاً، سيُطلب منه السفر بشكل منفصل عن والده الأمير (ويليام) لأنهم من الورثة المباشرين، ولأنه في حالة وقوع حادث مأساوي، سيتضرر وريث واحد فقط.

الإتيكيت الإنجليزي.. أخلاقيات سلوكية وإنسانية تسيء إليها تصرفات البريطانين!! أيضاً في حالات الحداد تلتزم العائلة المالكة بارتداء ملابس سوداء تناسب حالة الحزن، وهو تقليد غير رسمي متبع منذ الوفاة المفاجئة للملك (جورج السادس) والد الملكة الراحلة (إليزابيث الثانية)، أثناء تواجدها في كينيا، حيث ظلت منتظرة داخل الطائرة بعد عودتها إلى (لندن) حتى تم إحضار ملابس سوداء تناسب الحدث، ومن الجدير بالذكر هنا أن ارتداء الملابس السوداء في غير مناسبات الحزن والحداد، كان سبباً من أسباب الصدام بين الأميرة الراحلة (ديانا) أميرة ويلز، والملك الحالي (تشارلز) وذلك عندما ارتدت الأميرة فستاناً أسود خلال خطوبة ملكية. أيضاً على مستوى الترفيه والممارسات الكلامية، هناك قواعد صارمة تحكم المتواجدين في القصر الملكي، من ذلك مثلاً ما كشفه سابقاً الأمير (أندرو) لإحدى الصحف من عدم السماح ببعض الألعاب داخل البيوتات الملكية، مثل لعبة بنك الحظ الشهيرة (مونوبولي Monopoly)، في حين يمنع مطلقاً استخدام بعض المفردات اللغوية تحسباً لاعتبارات اللياقة الملكية في إجراء المحادثات، مثل كلمة مرحاض(toilet) حيث يستخدم بدلاً منها كلمة (lavatory)، وكذلك كلمة الاعتذار (pardon) ويستخدم بدلاً منها كلمة (sorry). وهناك الكثير من القواعد الصارمة الأخرى، كوجوب قبول الهدايا من الجميع ماعدا الشركات مثلاً، وضرورة تجنب قيام الزوجين الملكيين إظهار الغزل والرومانسية في الأماكن والزيارات العامة والخارجية، واستثناء الملك أو الملكة من استخراج رخصة قيادة للسيارة أو وضع لوحات عليها، إلى غير ذلك من قواعد.

تحولات صادمة
ومؤخراً، ظهرت عوامل عديدة أدت إلى تعريض قواعد الإتيكيت وفق الثقافة الإنجليزية المأثورة للذوبان والتلاشي، بل إلى ظهور سلوكيات مناقضة ومضادة؛ حيث أدى ظهور العولمة وتعدد الثقافات والاقتصاد العابر للقارات والدول، إلى جانب تنامي مظاهر المساواة الاجتماعية وقوانينها المختلفة والمختلطة بشكل عشوائي، دورًا كبيراً في إبعاد البريطانيين عن نمط أخلاقهم وعاداتهم الطبقية الصارمة، ولنا أن نتخيل تأثير هذا التنوع الثقافي بالنظر إلى وضعية العاصمة البريطانية لندن مثلاً، والتي تكتظ بأكثر من ثمانية ملايين نسمة يتواصلون بأكثر من 300 لغة مختلفة، حتى أن هذا التأثير، غيَّر مزاج البريطانيين تجاه نوعية الطعام المفضل بالنسبة لهم، فقام بتوجيهه من تفضيل اللحم البقري المشوي، إلى عشق أطباق دجاج Takka الهندية!! ولذلك تنتشر المطاعم الهندية بشكل عشوائي في عموم لندن. وقد كشفت إحصائيات ودراسات المؤسسات الاجتماعية البريطانية، عن وجود الكثير من مظاهر الخلل الأخلاقي والسلوكي لدى البريطانيين المعاصرين، بشكل يسيء للإرث الأخلاقي التاريخي للمملكة المتحدة؛ فقد أكدت إحدى الدراسات التي شملت ألفى بريطاني وبريطانية من البالغين، وجود 4 عادات سيئة على الأقل لدى كل شخص بالغ؛ ذكر أو أنثى، في حين اعترف أكثر من 90% ممن شملتهم الدراسة، بوجود عادة سيئة على الأقل، بينما أقر فرد من كل عشرة أفراد بوجود عشر نقاط ضعف أو أكثر في شخصيته، وقد حل السباب والشتائم وطرقعة الأصابع وقضم أظافر القدمين وعدم الإصغاء للآخرين في مقدمة تلك العادات، في حين تضمنت القائمة كثيراً من الأفعال والسلوكيات الاجتماعية المفرطة والمزعجة أو الضارة بالآخرين، كالمماطلة والتدخين والتجسس على هواتف الأصدقاء أثناء انشغالهم والتجشؤ وعدم الالتزام بغسل اليدين بعد مغادرة المرحاض والإسراف في الكحول ومقاطعة الحديث والتنصت والنميمة والكذب. كما كشفت دراسة أخرى شملت 1000 بريطاني وبريطانية عن الكثير من العادات السيئة في أماكن النوم والراحة، فقد وُجد أن 40.61% ممن شملتهم الدراسة، يتناولون الطعام في السرير، و38.08% يتركون ملابسهم ملقاة على الأرض، و35.76% يصدرون أصوات الشخير أثناء النوم، و35.15% لا يلتزمون بترتيب سريرهم بعد الاستيقاط، بينما يترك 25.45% غرفة النوم مضاءة ليلاً، و24.34% يهملون إغلاق الخزانات والأدراج، و 16.46% يهملون غسل الألحفة والأغطية والوسائد بشكل منتظم، و13.43% يضبطون أعداداً كثيرة لمنبه الهاتف، وخلال الرحلات والعطلات، أفادت إحدى الدراسات أن حوالي 40% من مرتادي أماكن الزيارات الترفيهية والعطلات من البريطانيين يعترفون بسرقة أشياء تذكارية من تلك الأماكن.

خلل حضاري
وبالنظر إلى هذه الإحصائيات والدراسات المختلفة عن عادات البريطانيين المعاصرة، لا يسع الناظر والمتأمل سوى التعجب والدهشة من هذا التحول الغريب، والتجاهل الأغرب لتاريخ بريطانيا الأخلاقي والسلوكي، من قبل البريطانيين أنفسهم؛ فبتتبع أخبار مناطق عديدة في البلاد، نصطدم بمظاهر رسمية وشعبية معيبة، ولا يصح أن تتواجد في بلد بحجم المملكة المتحدة؛ فعندما يشكو السكان في جنوب العاصمة لندن وفي مناطق أخرى كثيرة، من تراجع نظافة الأماكن العامة بفعل قلة المراحيض، وانتشار ظاهرة التبول في الشوارع، وعندما تنتشر حالات السرقة بالإكراه في وضح النهار، وعندما نرى ملايين الجرذان الضخمة بحجم الكلاب الصغيرة، تهاجم المدن البريطانية والمناطق السياحية في ويلز بسبب معاناة تلك الأماكن من انتشار البقايا والفضلات الغذائية في غفلة من الجماهير والمسؤولين على السواء، نكون بصدد قصور خدماتي، وخلل سلوكي وأخلاقي، وقتل متعمد لوجه بريطانيا الحضاري والإنساني. وبعد، يكفيكِ، عزيزتي القارئة، وأنت عزيزي القاريء، فتح دفتى إحدى الروايات الإنجليزية التاريخية القديمة للحصول على جمال الطلة، وروعة القيم والمباديء والأخلاق السلوكية والوجدانية التي تبثها شخصيات الرواية، ويعكسها الواقع الراقي للأحداث في المجتمع الإنجليزي المحافظ؛ فالكلمة والحركة والنظرة، رسائل مقننة، وحقائق موجهة، ومشاعر، سلبية أو إيجابية، لا يخطئها أصحابها، ولا تخطيء هي أصحابها، ومن خلالها ستدركان حتماً، حجم الفوارق الشاسعة بين ماض المملكة المتحدة وحاضرها، وسيتبين لكما أن كوباً واحداً من الشاي في يد أحد الإنجليز القدامى، يوازي في أناقته وجماله ومتعته، 165 مليون كوب من المشروب ذاته يستهلكهم البريطانيون الآن في يوم واحد!!

إترك تعليقك

إترك تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

X